دراساتصحيفة البعث

الظِلّ النّووي (nuclear shadow).. عودة النقاشات حول الردع النوويّ بالإنكار (denial)

منذ نهاية الحرب الباردة، تلاشى خطر استخدام الأسلحة النووية إلى حدٍّ كبير، ولكنّ السياسات النووية التي اتبعها الرئيس فلاديمير بوتين، كوضع القوات النووية في روسيا في حالة “تأهبٍ قصوى” على خلفية الحرب الأوكرانية (شباط 2022)،إضافةً إلى نتيجة الاستفتاء الدستوري البيلاروسيّ (2022) الذي وضع بيلاروسيا في وضع “الحياد النووي” وتخلت بموجبه بيلاروسيا حليفة روسيا عن وضعها كقوةٍ نوويةٍ محايدةٍ وبالتالي أصبحت قادرةٍ على نشر أسلحةٍ نوويٍة على أراضيها لدولةٍ ثانية، أعادت قضية السلاح النووي إلى دائرة النقاش من جديد، فقد أدّى نشر روسيا لصواريخٍ ذات قدرة نوويّة في الحرب الأوكرانية (2022)، وارتفاع المؤشّرات المُوحية باستخدامٍ مُحتمل للأسلحة النّوويّة، كالتحذير الذي أطلقه الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف والذي يشغل راهناً منصب نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، في مقال بعنوان “عصر المواجهة” في صحيفة “روسيسكاياغازيتا” (2023) من “أنّ نهاية العالم النووية ليست ممكنةً فحسب، بل إنّها محتملةٌ تماماً”، إلى زيادة الوعي المُحيط بالسّيناريوهات التي تسعى فيها دولةٌ مسلّحة نووياً إلى تأكيد هيمنتها في الصّراع، من خلال التّلميح باستخدام الأسلحة النّوويّة ضدَّ دولةٍ مُجاورة، أو الاستخدام الفعليّ للأسلحة النووية ضدها، والمعروفة بسياسات “الظلّ النووي”.

وفي خِضمّ النّقاشات الموسّعة لمواجهة سياسات الظلّ النّووي، ظهر مفهوم الرّدع بالنّفي أو بالإنكار (deterrence by denial)، الذي يقومُ على حرمان الخُصوم من المكاسب الميدانية التي يسعون إليها، والذي ينطوي أيضاً على تعزيز القدرة على الهجوم المضادّ، مع العمل على تقليص قُدرات الخُصوم على توجيه الضّربة الثّانية، والذي بدوره سيؤدي إلى رفع عتبة الخُصوم لِبدء الهُجوم، وهو ما يُضعِف تأثير سياسات “الظّل النّووي“، وهو يختلف عن الرّدع بالعقاب عبر ضربةٍ ثانية (deterrence by punishment)، ولعقود خلت بُنيت استراتيجية الردع على عقيدة الدمار المؤكد المتبادل (النووية)، وهي عقيدةٌ عسكريةٌ وسياسةٌ للأمن القومي حيث يؤدي الاستخدام الكامل للأسلحة النووية من جانب طرفين متعارضين أو أكثر إلى الإبادة الكاملة (ضربةٌ نوويةٌ وقائيةٌ وضربة ثانية)، هذه العقيدة مبنيّة على نظرية الردع التي ترى أنّ التهديد باستخدام أسلحةٍ قويةٍ ضدّ العدو يمنع استخدام العدو لتلك الأسلحة ذاتها، وهذه الإستراتيجية هيّ شكلٌ من أشكال توازن القوى، حيث لا يملك أيّ أحدٍ من الطرفين بعد تسليحه أيّ حافزٍ لبدء نزاعٍ أو نزاع مسلح.

عموماً، يعمل الردع من خلال التلاعب بإدراك الهدف لتكاليف وفوائد ومخاطر أيّ إجراء، فهو يعتمد على ما أطلق عليه (ألكسندر ل. جورج وريتشارد سموك) “إقناع الخصم بأنّ التكاليف والمخاطر المترتبة على مسار عملٍ معينٍ ربما تفوق فوائده”، ولهذا السبب يعدّ إرسال الإشارات والاتصالات جزءاً لا يتجزأ من مفهوم الردع، إذ يمكن للإشارات القوية التي تدلي بها دولةٌ ما، إذا كانت مدعومة بالقدرة الفعلية، أن تساعد في إقناع الخصوم بأنّ تكاليف تحدي تلك الدولة مرتفعةٌ.

تاريخياً، جاء الردع في شكلين: العقاب والحرمان أو الإنكار، من الناحية النظرية والتطبيقية تميل الدول إلى الردع من خلال التركيز على فرض التكاليف على الخصم، وبعبارةٍ أخرى، على استراتيجيات العقاب، وفي هذا السياق كتب (جون جيه ميرشايمر)  أنّ العقاب يتضمن في كثير من الأحيان “التهديد بتدمير أجزاءٍ كبيرة من السكان المدنيين التابعين للخصم وبناه الصناعية التحتية”، في حين أنّ الإنكار “يتطلب إقناع الخصم بأنّه لن يحقق أهدافه في ساحة المعركة، ويضيف (مايكل جيه مزار) أنّ استراتيجيات الإنكار “تسعى إلى ردع أيّ إجراءٍ من خلال جعله غير ممكنٍ أو من غير المرجح أن ينجح، تنجح هذه الاستراتيجيات عندما تستهدف دولةٌ ما القدرات العسكرية للعدو (على النقيض من مراكزها السكانية أو اقتصادها) أو تدعم دفاعاتها الخاصة إلى الحدّ الذي يجعل العمليات الهجومية مكلفةً للغاية بالنسبة للدولة المهاجمة، ويكمن الفرق الرئيس بين الأسلوبين في الطريقة التي يتم بها تحقيق ردع الخصم، في الردع بالإنكار يتم حرمان الخصم من القدرة على تحقيق أهدافه، وبالتالي يتم ردعه عن بدء حربٍ لا يمكنه الفوز بها، ومع ذلك، في الردع بالعقاب، يتم ردع الخصم عن بدء الحرب بسبب التكاليف المرتفعة والعقاب الذي سيتعين عليه تحمله في هذه العملية، ومع ذلك، فإنّ التناقض بين الردع بالمنع والردع بالعقاب ليس تناقضاً مطلقاً، إذ يتضمن الردع بالإنكار عنصراً من عناصر العقاب في عملية الرفض ذاتها، وانطلاقاً من عقيدة الردع بالإنكار بدأت الدول النووية بزيادة القوة النووية التكتيكية، فقد وصل عدد الرؤوس الحربية النووية التي يمكن للدول نشرها إلى إجمالي 9576 رأساً في بداية العام 2023، مقارنة بـ 9440 في العام 2022، كما تسعى الصين  إلى مضاعفة ترسانتها إلى أكثر من 1000 رأس حربي نوويّ بحلول عام 2030،  وتعكس هذه الزيادة المستمرة منذ العام 2017 عودة مسار الردع النووي بالإنكار، بعد مسيرة خفض الأسلحة النووية منذ نهاية الحرب الباردة، وتعزز هذا الاتجاه مع انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة القوى النووية المتوسطة NIF)) (2019) ، وانسحاب روسيا من معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (2023)، وتعليقها لمشاركتها في معاهدة نيو ستارت (NewSTART) في العام (2023) وهّي معاهدة الحدّ من الصواريخ النووية طويلة المدى والعابرة للقارات.

ورغم هذه الزيادة في الردع النووي التكتيكي، فقد أتت الحرب الأوكرانية لتخلق حالةً من عدم اليقين حول استراتيجيات الإنكار النووي وجدواها على المستوى العالمي، فكثيراً ما يزعم مريدو “الإنكار” أنّه “يخلق حالةً من عدم اليقين لدى المعتدي، وهو ما يتعارض مع اليقين الذي ينبغي لإستراتيجية الإنكار أن تنقله، من جهةٍ أخرى فتنفيذ حملة إنكار واضحة ضدّ قوةٍ مهاجمةٍ قد تستفزها وتنقلها إلى عتبة الاستخدام النووي، وهو ما يجعلها تتحفظ، الأمر الذي يضعف حالة الردع، ونتيجة لذلك ظهر مفهوم الردع المتوازن، والمتمثل بالركائز الثلاثة، بناء القدرات الدفاعية الكاملة، الشراكات الإستراتيجية، الثالوث النووي والمظلة النووية للحلفاء، ولكن أيضاً لهذا النوع من الردع محاذيره على الاستقرار الاستراتيجيّ العالمي، فقد فاقم من المعضلة الأمنية العالمية، وأدخل العلاقات الدولية بسباق تسلحٍ جديدٍ ونوعيّ، وأعاد أفكار تجديد التحالفات والشراكات وتعزيزها على المستوى العالمي.

راهناً، التوازن العالمي للردع النووي بدأ بالتغير، سيما مع ارتفاع عدد الدول المسلحة نووياً خارج دائرة الحيازة النووية الرسمية، والذي سيؤدي حكماً إلى زعزعة استقرار النظام العالمي وزيادة التوترات الإقليمية، لذلك، بدأت الدول النووية الكبرى تفكر عملياً بعقيدة ضربة نووية أولى محدودة.

ختاماً، نظريات الردع النووي لم تواكب بعد التغيرات الحاصلة في بيئة الردع النووي، فالنظريات التقليدية للردع غالباً ما اعتمدت على بيئةٍ ثنائيةٍ أو أحادية القطب لفرض الاستقرار النووي، ومع اتجاه النظام الدوليّ لمزيدٍ من عدم الاستقرار، وتعدد القوى الكبرى سيما الصاعدة منها، أصبح من الملّح إعادة التفكير بنظريات الردع النووي التقليدية، وإعادة بناء سياسات الأمن القوميّ انطلاقاً من متغيرات الردع النووي بالإنكار وعقيدة الضربة النووي الأولى المحدودة.

الدكتور سومر صالح