ثقافةصحيفة البعث

الاعتذار إلى الأشجار!!..

نجوى صليبه

خاضت قبيلة “ناتشلات” أحد مجتمعات السّكان الأصليين في كندا معركةً قضائيةً مع بريطانية، ولإثبات حقوق ملكيتها التّاريخية للأرض لجأت إلى استخدام دليلٍ فريد، تقول إنّه ليس جزءاً من تراثها الثّقافي فحسب، بل إنّه إرثٌ حيٌّ ومهمٌ يجب الاعتناء به من أجل إصلاح الأرض المتضررة، وأمّا الدّليل فهو أشجار الأرز الأحمر المعمّرة، مستعينةً هنا بمذكّرات المستكشف البريطاني القبطان “جيمس كوك”.

وطلبت القبيلة من عالم الآثار “جاكوب إيرنشو” البحث وتقديم الأدلة حول ما يسمى بـ”الأشجار المعدّلة ثقافياً”، وهي الأشجار التي تستخدم تراثياً من قبل السّكان الأصليين، ولاسيّما بما يتعلّق بجمع قطع من لحائها”، يقول “إيرنشو”: “الأشجار المعدّلة ثقافياً مهمّة حقّاً، وتتعلّق براهين ملكيّة الأرض بإمكانية إثبات شغل الأرض من قبل السّكان الأصليين بشكلٍ متواصلٍ وكافٍ وحصريّ، والأشجار هي وسيلة جيّدة جدّاً لإثبات ذلك”.

ووجد “إيرنشو” أنّ الأرض تحتوي على حوالي 2500 شجرة معدّلة ثقافياً، تُظهر كيفية التئام فصوص جذوع الأشجار عند مواضع اللحاء المقطوع، تاركةً أخاديد طولية تعود إلى قرون عدة.

وفي المقلب الآخر، تحكي النّاشطة الأمريكية “إيف إنسلر” كرهها للأشجار وتعبّر عنه بتصالحٍ كبيرٍ مع الذّات، تقول: “لا أريد رؤية أيّ شجرة بعد الآن، هي مقترنة عندي بالبلدات الصّغيرة، والعقول الضّيقة والعزلة والنّميمة والشّتاء الطّويل المتجمّد والمناظر الطّبيعية الخضراء اللا متناهية والثّرثرة الفارغة والأسر والأطفال والزّواج والحياة.. ارتبطت الأشجار بالحياة” إلى قولها: “كنت خائفة من الأشجار وشعرت بأنّ الأرض عدوّي، ولم أكن أعيش في الغابة، بل عشت في قلب المدينة الإسمنتية حيث تُحجب السماء والغروب والنجوم، واندفعت بسرعة المحركات، فانقطعت أنفاسي، وصرت غريبة عن نفسي وعن إيقاعات الأرض”.

لكنّ حدثاً طارئاً يغيّر مجرى تفكير “إنسلر”، ويحوّل كرهها تعلّقاً يدفعها إلى كتابة رسالة اعتذار من الأشجار، أمّا الحدث فهو اضطرارها للبقاء في المستشفى تعاني وحدةً لم يقطعها سوى شجرة فضولية أدخلت رأسها من النّافذة، وأمّا الرّسالة التي كتبتها وكأنّها على لسان كلّ إنسان غيور على الطّبيعة، فنقتطف منها: “أمّي العزيزة.. بدأ كلّ شيء مع مقال الطّيور، مليونان وتسع مائة ألف طائر مفقود من شمال أميركا، اختفى مليونان وتسع مائة ألف طير من دون أن ينتبه أحد، طيور الدّوري والعصافير السّوداء والسّنونو التي لم تنجُ، تلك التي توقّفت عن التّحليق أو التّغريد أو بناء أعشاشها، التي لم تجثم على التّراب الأسود ولم تغرز مناقيرها الوديعة فيه.. أمّي، أنا السّبب في اختفاء الطيور.. أنا السّبب في عجز السّالمون على التّبييض والفراشات العاجزة على قطع رحلتها عائدة إلى منازلها.. أنا الشّعاب المرجانية الباهتة الميتة والبحر الفائر بالميثان.. أنا ملايين الهاربين من الأراضي التي جفت والغابات التي احترقت أو الجزر التي غرقت”.

وتبيّن”إنسلر” سبب كرهها السّابق للطّبيعة والأشجار فتقول: “لم أركِ يا أمي، كنت لا شيء بالنّسبة إليّ.. دفعتني غطرستي التي صنعتها أزماتي السّابقة وطموحي إلى تلك المدينة النّابضة المحطّمة، أطارد حلماً، أطارد جائزةً، أطارد الإنجاز الذي سيثبت أخيراً أنّي لم أكن سيّئة ولا غبية ولا عدماً ولا خطأً”.

نعم “الإنجاز” هو ما دفعني إلى البدء بهذين المثالين، فقد يكون الإنجاز بجانب منه سلبياً إلى أبعد الحدود، وذلك عندما يكون صاحبه أنانياً ويتسبب بأذية الآخرين، ولا نقصد بـ”الآخر” البشر فحسب، بل الطّبيعة، وتحديداً أشجارها، وتحديداً أكثر الأشجار الثّقافية، فلو توّقفنا قليلاً عند بعض الشّعر وبعض الرّواية وبعض القصّة وبعض المقالات، سنجد أنّها أقلّ بكثير من قيمة الورق الذي طبعت عليه، وأقلّ بكثير من الأشجار التي قطعت لطباعة الكثير من البشاعة والنّفاق واللاشعر واللارواية واللاقصّة واللامقالة، ليس من ناحية المستوى الأدب واللغة والصّورة الفنّية فقط، بل من حيث المهنيّة والأخلاق، وكذلك الأخلاق المهنيّة والأخلاق الأدبية.

قبيلة “ناتشلات” ناضلت وكافحت وأثبتت حقّها بالاستعانة بأشجارها المعدّلة ثقافياً، و”إنسلر” اعترفت بأخطائها واعتذرت من الأشجار على كرهها فقط، مع العلم أنّها لم تذكر أنّها قطعت شجرةً أو أساءت إلى شجرة، وهي لو اعترفت بذلك، لأسقط اعترافها جزءاً من ذنبها، أمّا نحن فمستمرون في أخطائنا تجاه الأشجار ومستمرون في طباعة كتب لا تليق بثقافتنا ولا يعوّل عليها بشيء، وكلّ ذلك تحت راية “السّاحة كبيرة وتتّسع للجميع.. والأيّام كفيلة بسقوط الأغصان الضّعيفة”.