دراساتصحيفة البعث

مشهد الحرب الساخنة الجديدة على المستوى القضائي في لاهاي

ريا خوري

تابع العالم أجمع انطلاق جلسات محكمة العدل الدولية في لاهاي للنظر في دعوى تقدمت بها دولة جنوب إفريقيا ضد الكيان الصهيوني، تتهمها فيه بارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

ورجّحت وسائل الإعلام البريطانية أن يدافع الكيان الصهيوني عن نفسه أمام المحكمة بأنه إنما يشنّ حرباً ساخنة في قطاع غزة للدفاع عن نفسه ضد المقاومة الفلسطينية وليس (لتدمير الشعب الفلسطيني الذي يعيش في القطاع).

ونقلت وسائل الإعلام البريطانية القول: (إنَّ دولة جنوب إفريقيا تحاول القيام بالكثير من الأعمال من بينها محاولة استعادة شيء من مكانتها المعنوية كصوت للعالم الذي يقطن جنوب الكرة الأرضية، التي أضاعتها بالموقف الذي اتخذته حيال الأزمة  الساخنة الروسية-الأوكرانية) بعدم إدانتها للعملية العسكرية الروسية.

لقد رأت جنوب إفريقيا أنَ الدعوى التي تقدّمت بها إلى محكمة العدل الدولية ضد الكيان الصهيوني قد أزعجت حلفاء الكيان الغربيين، لكنها لاقت في المقابل استحسان ورضا قوى متوسطة ناشئة مثل إندونيسيا وماليزيا ومنظمة التعاون الإسلامي، وآخرين.

فقد خاضت دولة جنوب إفريقيا يومي الخميس والجمعة 11 و12 الشهر الجاري معركة قضائية وسياسية ضارية في محكمة العدل الدولية، لا تقل ضراوةً وقسوةً عن حرب الإبادة التي تقوم بها قوات الكيان الصهيوني في قطاع غزة.

وهذه المعركة هي معركة العالم الحر قبل العرب ضد العنصرية والجرائم والبطش والمجازر والإبادة الجماعية التي تُرتَكَبُ في قطاع غزة ضد المدنيين العزّل، هي معركة من أجل العدالة والحرية والحق، تحمّلت مهمّتها دولة جنوب إفريقيا باعتبارها تمثل تاريخاً طويلاً من الكفاح الطويل والنضال ضد العنصرية والتمييز العرقي.

الجدير بالذكر أنّ دولة جنوب إفريقيا قد استرجعت مسار الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، رمز الكفاح ضد التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، الذي دوَّن اسمه على لائحة أبرز شخصيات التاريخ المعاصر، والذي اعتمد فلسفة نبذ العنف والظلم والقهر في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي في منطقة كايب تاون، حيث أصبح الزعيم الجنوب الإفريقي نيلسون مانديلا رويداً رويداً يمثل أكثر من غيره في عيون الرأي العام العالمي الرمز المثالي للكفاح ضد التمييز العنصري، والذي قضى نحو سبعة وعشرين عاماً في سجن الفصل العنصري، وخرج إلى الحرية عام 1990م، حاملاً رايتها خفاقة عالياً، مؤكداً أنَّ الحرية لن تكتمل من دون حرية الشعب الفلسطيني. وها هم أحفاد المناضل العالمي نيلسون مانديلا يكملون الرسالة ويسيرون على النهج نفسه، ويؤكّدونَ أنَّ الأمانة التي يحملونها يجب أن تترجم بشكلٍ عملي في مواجهة أعتى حرب إبادة جماعية يتعرّض لها الشعب العربي الفلسطيني منذ النكبة عام 1948.

لقد قدّمت دولة جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية مذكرة مؤلفة من أربعةٍ وثمانين صفحة برئاسة وزير العدل رونالد لامولا تتهم فيها الكيان الصهيوني بارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الشعب العربي الفلسطيني، واستندت إلى المادة 41 من قانون محكمة العدل الدولية الذي وضع عام 1948، والذي عرّف مفهوم الإبادة الجماعية على أنه ارتكاب أعمال بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة دينية، أو قومية، أو إثنية، أو عرقية، وتشمل قتل أعضاء الجماعة، وإلحاق أذى بدني أو نفسي بها، وإخضاعها عمداً لظروف معيشية يُراد بها تدميرها كلياً أو جزئياً.

كان موقف جنوب إفريقيا قوياً جداً من خلال دعوته لمحاكمة الكيان الصهيوني، فقد تمكّن فريق محاميها في مرافعاتهم  القانونية والمدعومة بالإثباتات والأدلة القانونية، من تعرية الممارسات التي ترتكبها قوات العدو الصهيوني بحق المدنيين في قطاع غزة، وقتل وجرح عشرات الآلاف منهم، وتشريد نحو مليوني مواطن فلسطيني وتدمير منازلهم والمستشفيات والكنائس والمساجد وأماكن اللجوء في المدارس التابعة للمنظمات الدولية وموظفي الأمم المتحدة والصحفيين، وذلك من خلال تقديم الوثائق والأدلة والصور، وتصريحات لمسؤولين صهاينة يطالبون بالتدمير والقتل والإبادة الجماعية والتهجير القسري، إضافة إلى الحصار البري والجوي والبحري المفروض على قطاع غزة منذ نحو سبعة عشر عاماً، ومنع الغذاء والدواء والوقود والكهرباء.

تلك المرافعة عرَّت الكيان الصهيوني العنصري أمام العالم، ما أدّى إلى فقدان أي حالة دفاع صهيوني في المحكمة تقنع المحكمة والعالم الذي يتابع مجريات المرافعات، فقد جُنَّ جنون القادة الصهاينة ولم يجدوا من وصف لما قدّمته دولة جنوب إفريقيا من أدلة ووثائق وصور إلا القول إنها (نفاق وأكاذيب)، كما لم يجد الكيان الصهيوني أي رعاية من الولايات المتحدة الأمريكية سوى القول: (إنَّ الادّعاءات بأن الكيان الصهيوني يرتكب إبادة جماعية لا أساس لها من الصحة). وضخّ ممثلو الدفاع (الإسرائيلي) في محكمة العدل الدولية بدورهم سلسلة من التلفيقات والأكاذيب التي كرّرها الاحتلال الصهيوني على مدار عشرات سنوات لتبرير كل الجرائم الوحشية والمجازر التي ارتكبها بحق الشعب العربي الفلسطيني منذ نكبة عام 1948.

الفريق القضائي الصهيوني حاول مراراً التملّص من تصريحات قادته ومسؤوليه التي تدعو إلى الإبادة الجماعية، كما ادّعى الفريق القضائي الصهيوني أنَّ المحكمة ليست مختصة بالنظر في المذكرة التي قدّمتها دولة جنوب إفريقيا.

الواضح تماماً أننا نقف أمام مشهد جديد من مشاهد الحرب الساخنة الجديدة على المستوى القضائي والسياسي، إذ على محكمة العدل الدولية أن تتخذ قرارها  الصارم بتعليق فوري للحرب الدامية على قطاع غزة، وإدانة: (أعمال الإبادة الجماعية) التي يقوم بها الكيان الصهيوني الغاصب ضد الشعب العربي الفلسطيني، وذلك إحقاقاً للعدالة والحق والإنسانية.