هل تخلّت الصّحافة الثقافيّة عن مهماتها الأساسية؟
أمينة عباس
على الرغم من أن المشاركين في ندوة “الصّحافة الثقافيّة في سورية بين أجيال عدة” ينتمون لأجيالٍ مختلفة، لكن الحديث عما مضى كان سيد الموقف والقاسم المشترك بينهم، فاحتل الحيز الأكبر من حديثهم، ولسان حالهم يقول “شتّان بين ما كان وما هو موجود الآن”، وهذا إن دل على شيء يدلّ على أن حاضر الصحافة الثقافية السورية ليس على ما يرام، وإن كانت عنواناً للندوة، لكن الحديث فيها اتّسع ليشمل موضوعات أخرى كغياب الصّحافة الورقيّة.
دور تنويري
شارك في الندوة التي أُقِيمَت في المركز الثقافي العربي بأبو رمانة – بإدارة الشاعر محمد خالد الخضر- رئيس اتحاد الصّحفيين السوريين موسى عبد النور والكاتب والإعلامي ديب علي حسن والإعلامي عمار النعمة، وبيّن ديب علي حسن أن الصّحافة في العالم بدأت ثقافيّةً قبل أن تبدأ سياسيّة، وكانت مجلة “الهلال” التي أسّسها جرجي زيدان عام 1892 أول مجلة ثقافية في الوطن العربي وهي ما تزال مستمرة حتى الآن، ومن ثم كان قصب السبق الثاني لمجلة “مجمع العلم العربي” 1929، الذي تحوّل إلى مجمع اللغة العربيّة فيما بعد وهي ما تزال مستمرة، ثم تأتي مجلة “الثقافة” التي أصدرها كاظم داغستاني مع مجموعة كبيرة من الكتّاب السوريين، فمجلّة “النّهضة” التي أصدرها حامد حسن ووجيه محي الدين في طرطوس، ومجلة “القيثارة” في اللاذقية التي أصدرها عام 1946 كمال الشرابي، وهي التي اكتشفتْ أدونيس وسعيد عقل ونزار قباني، ثم توالى صدور المجلات الثقافية في سورية كمجلة “المعرفة” العريقة التي أصدرتها وزارة الثقافة 1962 وما تزال تصدر حتى الآن، مذكراً ببعض المجلات العربية أيضاً كمجلة “العربي” في الكويت، ومضيفاً: “لو استعرضنا تاريخ الصحافة في الوطن العربي سنجد أن معظم الصحفيين المهمين جداً لم يكونوا خريجي المدارس الصحفيّة لعدم وجود أكاديميات صحفيّة حينها باستثناء في مصر، ومع ذلك لمعتْ في الصحافة الثقافية السورية أسماء مهمة أدّت دوراً مهماً فيها مثل عادل أبو شنب، ونصر الدين البحرة، وصبحي محي الدين، ومدحة عكاش الذي أسس مجلة “الثقافة”، مبيّناً أن المرحلة الذهبية في الصحافة الثقافيّة في سورية كانت ما بين الستينيات والثمانينيات، وكتب فيها ممدوح عدوان، وأدونيس، ومحمد عمران ونزار قباني، واستطاعت أن ترسخ التنوير في وجدان المجتمع العربي، وتدريجيّاً خبا وهجها الثقافي وبريقها الإعلامي، ولاسيّما بعد الغزو الأزرق وهي التي أدّتْ دوراً تنويريّاً مهماً، وكانت أحد أسباب اليقظة العربيّة ضد الاحتلال العثماني، مشيراً إلى أن ما يوجد اليوم ضمن صفحات وسائل التواصل الاجتماعي عبارة عن دوغما ثقافيّة تحول الجميع فيها إلى مثقفين وصحفيين وكتّاب وشعراء، في حين غابت فيه الصحافة الورقية التي برأيه تزداد انتشاراً في العالم في الوقت الذي نقفز فيه إلى أحدث التقنيات من دون أن يكون لدينا أي بنية تحتية لها، منوهاً بأن الصحافة الورقية وثيقة لا يعدوها الزمن ولا يمكن التأثير فيها وأن عدم وجودها هو فقدان للذاكرة لذلك لا قيم ثقافية لدى الجيل الحالي على الإطلاق.
تجريف ثقافي
وأشار عمار النعمة إلى أن الصّحافة العربيّة بدأتْ ثقافيّةً ومرّت بفتراتٍ ذهبيّةٍ في تطوير وتطور الذهنيات، وبناء الوعي لدى المواطن العربي، مبيّناً أنه من جيلٍ كانت الصّحافة اليوميّة بالنسبة له أحد أهم المصادر التثقيفية والتوعويّة تجاه كل القضايا، وقد كانت عامرة بكل ما يمكن تصوّره من معارف وقضايا وأفكار وفلسفات وفنون ومقالات تناولت حنا مينة وسعد الله ونوس ونزار قباني وتوفيق الحكيم وأدونيس، في الوقت الذي يشعر فيه المتابع للشأن الثقافي الآن في صفحاتنا العربيّة بالكثير من الخيبة وبعض الألم لما آل إليه الحال، موضحاً أن البعض يرى أن هذا أمر طبيعي لتراجع النشاط الثقافي، في حين رأى أن السبب الرئيس في التراجع يرجع لفكرة اهتمام الصحافة بما هو جماهيري وشعبي خاصّةً قضايا النجوم الشخصيّة ومشاهير كرة القدم، معترفاً بأننا مسؤولون عن تراجع الاهتمام بالشأن الثقافي وقضايا الثقافة ربما لانشغالنا بأمور حياتية أخرى، حيث لم يعد الاهتمام الثقافي جلّ اهتمامنا في ظل الظروف التي نعيشها، فخلتْ بعض الصحف والمواقع الإلكترونية من وجود الصفحات الثقافيّة بشكل يليق بالإبداع، فأدى هذا التغيير إلى وجود تجريف ثقافي حرم القارئ من حقه في مطالعة ومواكبة الأحداث الثقافيّة التي يبحث عنها ليشبع حاسة الإبداع لديه، ما أدى إلى افتقار التنوير العقلي للمهتم بالشأن الثقافي.
الثقافة ضمن أولوياتهما
وارتاًى موسى عبد النور العودة بذاكرته إلى بدايات الإذاعة والتلفزيون وفترة السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي، حيث كانت الثقافة ضمن أولوياتهما، مستعرضاً بعض البرامج الدّاعمة للثقافة واللغة العربية التي كانت في أغلبها تعتمد على عقد الندوات والحوار وتناول شخصيّات روائيَّة ومسرحيّة وموسيقيّة وطرق لباب الأدب العالمي عبر برامج ولقاءات أدبية وأعمال درامية مستوحاة من التاريخ العربي، مع تأكيده أن معظم هذه البرامج كانت تُعَدّ أو تُقَدَّم من قبل شخصيات ثقافيّة مهمة وكانت ترتقي بالمشاهد والمستمع من خلال مضامين ثقافيّة وأدبيّة وفنيّة مهمة، وقد استمر بعضها سنوات طويلة.
الوعاء الحامل للثقافة
وأكد الحضور من خلال مداخلاتهم أهمية البرامج الثقافيّة التي كانت تُقَدَّم في الإذاعة والتلفزيون، وأهمية الصفحات الثقافية في صحفنا، حيث بيّنَ الإعلامي عماد نداف أن العصر تغيّر، وبات من الصعب مخاطبة الجيل الجديد بأدوات وأشكال قديمة كما هو واقع الحال اليوم، والذي أدى إلى هجر هذه البرامج والصفحات والبحث عن منافذ أخرى تشبع حاجاته، في حين رأى المذيع أسامة شحادة أنَّ المشكلة في التردّي الثقافي الذي نعيشه وانعكس على البرامج والصّحافة هي مشكلة مجتمع بشكل عام، وما الحضور الخجول برأيه في محاضرة ثقافيّة مهمة إلا دليل على واقع غير طبيعي، منطلقه مدارسنا وإعلامنا ومختلف مؤسسات القطاع العام كونها الوعاء الحامل للثقافة بشكل عام.