أسبقية الجواب الثقافيّ على السؤال الاقتصاديّ في نقاشات دور الدولة المعاصر
الدكتور سومر صالح
إنّ البحث في دور الدولة مسألةٌ طبيعةٌ وحيويةٌ متجددةٌ حسب ظروف الدولة من جهة، وتطورها واستقرارها في الوعي الوطنيّ من جهةٍ أخرى؛ وعلى عكس ما يشاع فالستاتيك (Static) في دور الدولة هو دليلٌ على خللٍ في بنية الدولة على أحد المستويات: الاقتصادية والاجتماعية أو الهوياتية وربما جميعها.
تاريخيا، غالبا ما ارتبط البحث عن الدور الجديد للدولة بالمتغيرات الاقتصادية داخل الدولة، حتى أن أغلب النظريات التي تبحث في دور الدولة هي نظريات اقتصادية، تراوحت بين (الليبرالية والاشتراكية)، وجذراها الفلسفيان (الفردية والجماعية). وتراوحت أدوار الدولة وفق ذلك الانقسام الأيديولوجي بين الدولة الحارسة (مدرسة آدم سميث) والدولة الراعية (الرفاه) (المدرسة الكينزية)، والدولة المركزية (الاشتراكية) (ماركس وأنجلز)، والطريق الثالث (أنطوني جيدنز)، ودولة التدخل المفتوح (الاشتراكية الصينية).
ولعقودٍ ماضيةٍ، بقي البحث في دور الدولة مرتبطا بدرجةٍ كبيرةٍ إلى العامل الاقتصادي، فالانتقال من الدولة الحارسة، المنوط بها سياسات الدفاع والأمن بغرض حراسة حرية قوى السوق، إلى الدّولة (الكينزية) والتي دعت إلى ضرورة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي والاجتماعي، بواسطة الاتفاق العام ومن خلال الموازنة العامة، كان مردّه وقوع أزمة الكساد الكبير (29 – 1932)، والتي تبين بعدها أنّ دور الدولة بالمفهوم الليبراليّ الكلاسيكيّ قد أثبت فشله. ولكن مع مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، اشتد النقد الموجه لتدخل الدولة لا سيما في النشاط الاقتصادي، وتمحور هذا النقد حول فكرةٍ مركزيةٍ مفادها أنّ تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي من شأنه أن يلغي تأثير آلية السوق في توجيه النشاط الاقتصادي، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور اختلالاتٍ بنيويةٍ في الاقتصاد الوطنيّ تفرز بدورها مشكلاتٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ تعرقل مسيرة التنمية، وظهر معها اتجاه (مارجريت تاتشر – ريغان)، والتي وضع أسسه الفيلسوفان الاقتصاديان “فريدريك فون هاييك”و “ميلثون فريدمان”، ويرى أنصاره أنّ اللامساواة الاجتماعية ظاهرةٌ طبيعية، وهذا الاتجاه يقلّص دور الدولة ويجعلها غير تدخليةٍ في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، وهو أقرب إلى اتجاهات المرحلة الأولى، طبعاً السبب في ذلك هو ظهور النيوليبرالية كاتجاهٍ سياسيٍّ اقتصاديٍّ قيميٍّ عالميّ مع العولمة الثالثة يدعو إلى إلغاء السياسات الحماية وفتح الحدود وحرية انتقال رأس المال، ومع توغل الاقتصاد الرأسمالي على حساب الطبقات الاجتماعية وخوفاً من تحركاتٍ ثوريةٍ في معاقل الرأسمالية ظهر (التيار الثالث) (أنطوني جيدنز) الذي يؤمن بأنّ التوازن الاقتصاديّ والاجتماعيّ يحدث من خلال التوازن بين التدخل الحكومي ومبدأ الحرية الفردية، وعليه الدور الاجتماعي الجديد للدولة دورٌ يبرز في السياسات التوزيعية التي تسعى لتحقيق أكبر قدرٍ من العدالة الاجتماعية ويتحقق من خلال إقامة دعم البنية الأساسية والتوسع في سياسة الخدمات وإعادة توزيع العدالة الاجتماعية.
والحقيقة أنّ البحث في دور الدولة، استناداً إلى المتغير الاقتصاديّ فقط، هو بحثٌ جزئيٌّ قاصرٌ عن إعطاء نتائج حقيقية، فإغفال (النظريات الاجتماعية) و(الثقافية) والحاجة في بحث الأدوار الجديدة للدولة بمقتضاها، هو خطأٌ منهجيٌّ يقود لنتائج خاطئة، إذ تنشأ الدولة من الحاجة إلى تنظيم الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، ومن هنا نشأت المدرسة (الوظيفية البنائية) وهي منظورٌ نظريٌّ نقديٌّ أنثروبولوجيٌّ ينظر إلى المجتمع على أنّه نظامٌ معقدٌ يتكون من أجزاء مترابطة تعمل معاً للحفاظ على النظام والاستقرار، من هذا المنظور، ينظر إلى الدولة على أنّها مؤسسةٌ عقلانيةٌ تلعب دوراُ حاسماً في الحفاظ على النظام الاجتماعيّ وتنظيم توزيع الموارد، ظهرت البنائية الوظيفية في أعقاب ظهور كلّ من البنيوية الاجتماعية علي أيدي كلّ من كلاودس ليفي ستراوس وكولدون ويزير، والوظيفية على أيدي كلّ من ماكس فيبر واميل دوركايم ووليم كراهام سمنر علماً بأنّ ظهورها كان كرد فعل للتراجع والضعف والإخفاق الذي مُنيت به كلّ من البنيوية و الوظيفية لكون كلّ منهما أحادية الجانب، ذلك أنّ البنيوية تفسر المجتمع والظاهرة الاجتماعية وفقاً للأجزاء والمكونات والعوامل المفردة التي يتكون منها البناء الاجتماعي بعيداُ عن وظائف هذه الأجزاء والنتائج المتمخضة عن وجودها، في حين أنّ الوظيفية تفسر الظاهرة الاجتماعية وفق نتائجها لا مكوناتها.
تفترض البنائية الوظيفة تكاملاً بين البناء والوظيفة، إذ لا بناء بدون وظيفة، ولا وظيفة بدون بناء، وبالتالي الدولة كبناءٍ يفترض أن تتكامل مع الوظيفة كهدف، والهدف مرتبطٌ بالاستقرار والتنمية، أيّ أنّ الهدف الثقافي الاقتصادي يحققه مدخل تنموي رصين، وعلى اعتبار أنّ الدولة هيّ أجزاءٌ متكاملةٌ، فكلّ جزءٍ يكمل الجزء الآخر وأنّ أيّ تغيير يطرأ على أحد الأجزاء لابدّ أن ينعكس على بقية الأجزاء، وبالتالي يحدث ما يسمى بعملية التغير الاجتماعي، من هنا تفسر النظرية البنيوية الوظيفية التغير الاجتماعي بتغييرٍ جزئيّ يطرأ على أحد الوحدات أو العناصر التركيبية، وهذا التغير سرعان ما يؤثر في بقية الأجزاء إذ يغيرها من طور إلى طور آخر، طبعاً هنا تقوم الوظيفية على منهج معاكس للمنهج الدستوري، إذ أن منطق التكامل لا يجب أن يكون فوقياً (دستورياً)، بل بالتركيز على التعامل مع الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المقام الأول، كوظيفةٍ تحقق التكامل كهدف للدولة، وانطلاقاً من ذلك فالبحث في دورٍ جديد للدولة هو نتيجة تغيّر حصل في البناء الكليّ على مستوى أجزاءٍ محددة، يستدعي نقاشه أولاً ومعرفة مسبباته، ومدى تأثيره عل مجمل البناء وبالتالي الوظيفة.
الدور الاقتصادي للدولة مرتبطٌ بدورٍ أكبر وفي خدمته، وهو الدور الاجتماعيّ والهدف الثقافي للدولة، فالتغيير في الدور الاجتماعي باعتباره (فعلاً أو استجابة)، وسياسات الهوية (بناءً أم مراجعةً)، هيّ من تحدد الدور الاقتصادي الذي يفترض أن يكون أداةً لنجاح الهدف الاجتماعي الثقافي للدولة، ومسألة عكس الأمر ليكون الدور الاجتماعي والثقافي نتيجة للدور الاقتصادي، سيقود حكماً لنتائج خاطئة ويعرض المجتمع والثقافة لنكسات ومخاطر فقدان الانتماء والهوية والولاء، وحتى في ظلّ وجود أيديولوجيا شاملة للدولة يجب أن يكون الاقتصاد في خدمة سياسات الهوية والمجتمع، فالاقتصاد في نهاية الأمر هو أحد مكونات المجتمع، والمجتمع هو الإطار الذي يعمل فيه الاقتصاد، وبسبب هذه العلاقة، فإنّ لكلّ مجتمعٍ اقتصاده الخاص، ويعكس كلّ اقتصاد احتياجات المجتمع وسماته الثقافية، والدولة هنا بدورها التنظيميّ وباعتبارها فاعلاً عقلانياً سيما في الدول التي نشأت في الحقبة ما بعد الاستعمارية تتدخل لوصول المجتمع ككل إلى صيغة عقدٍ اجتماعيٍّ توافقيٍّ تنبثق عنه هويةٌ سياسيةٌ تعالج الإرث الاستعماري، وهذه النقطة بالتحديد فارقةٌ في مقارنة الأفكار الغربية مع الأفكار في بلدان العالم النامي، فالغرب عموما تعرف إلى الدولة تاريخيا اسبق منذ ويستفاليا وكانت دولة ويستفاليا تعبيرا عن اللحظة الفكرية التي وصل إليها الوعي الغربيّ عموماً بفكرة الدولة وهيّ بالمناسبة نتيجة صراعات وحروب دامت عقوداً خلّفت الكثير من المآسي، مقارنة بالنموذج الحالي في العالم النامي الذي تعرف على الدولة كنضالٍ ضد مستعمر، فجمعت تلك الدولة الوليدة مشكلات الإرث الاستعماري سيما الصدوع الهوياتية، ولم تكن تعبيراً عن وعي التجمعات البشرية في إقليمٍ محددٍ بالحاجة إلى عقدٍ اجتماعيٍّ وهويةٍ وطنيةٍ تضمن الاستقرار، بقدر ما كانت نضالاً ضد أخر، وفكرة الآخر لم تتلاشى بعد حتى في الصيغ الداخلية، وفي سبيل ذلك لجأت الدول النامية عموماً إلى الصيغ الأيديولوجية الشاملة لجمع الاقتصاد والمجتمع والثقافة في بوتقة واحدة، وهو ما حقق نجاحات أولية (تحتية) لا يمكن تجاوزها، ولكن تلاشي الصيغ الأيديولوجية في الفكر المعاصر، والمشكلات الاقتصادية السياسية المستجدة في العالم النامي (تداعيات العولمة الرابعة والثورة الرقمية)، سيما الاقتصادية أعاد طرح سؤال دور الدولة في الاقتصاد، والذي هو تعبير عن أسئلة أعمق، تتخفى بها وفي مقدمها، سؤال هل وصلت سياسات الهوية والمجتمع إلى أفقٍ مسدود؟.
ونعتقد أنّ سؤال إشكالية الثقافة ومشكلات المجتمع هنا ليس حرجاً أو انتقاصاً، فهي إشكاليات لها ظروفها السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية وحتى العالمية مع العولمة الرابعة وتداعياتها، وبالعكس نعدّه ضرورة لتحديد بوابة الاستجابة أو مدخل العلاج السليم فيصبح المدخل الاقتصادي الجديد هو أداةٌ لعلاج المشكلة الأعمق وهيّ الهوية والثقافة والمجتمع، وهو ما يتطلب بالضرورة إسراعاً بتشخيص المشكلة والبحث عن حلول (موضوعية) لها يكون الدور الاقتصادي للدولة خادماً لتوجهاتها وضامناً لاستقرارها.
لذلك نعتقد أنّ البناء الهوياتي للدولة (الوظيفة) هو المدخل السليم للبحث في دور الدولة في المجتمع، ويصبح معها الاقتصاد، والتنشئة، أدواتٌ في خدمة المشروع الاستراتيجي الهوياتي.
ومع بلورة الهدف وتشخيص حال المجتمع، يصبح البحث في الأداة والسياسة الاقتصادية أسهل وأكثر جدوى سياسية، وباعتبارها “الأساس الروحي للمجتمع”، فإنّ الثقافة هي الهدف والقوة الدافعة للتنمية الاقتصادية كهدف متقدم للدولة.
ختاماً، باعتقادنا إنّ ترك مسألة الوظيفة الثقافية للدولة لاحقاً على تحديد دور الدولة الاقتصادي، سيعمّق المشكلة الثقافية، وعلى العكس فإنّ تحديد الدور الاقتصادي للدولة بناءً على رؤية استراتيجية ثقافية متبلورة، سيؤمن نجاح الهدف واستقرار الأداة وفعالية البناء الكلي للدولة، وفي التحليل النهائي فهدف الاقتصاد والتنمية هو تعزيز وصون الهوية الوطنية.