الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

الغرب.. والندم!

ها أنذا، أجالسُ قلبي وأسئلتي وحيرتي، وأنا أرى تهافت حكام الغرب في هبوطهم المظلي المفاجئ في أرضنا الفلسطينية المحتلة، يأتون بكلّ الحمية واللهفة، لا من أجل الحجيج، ولا من أجل الطمأنينة، ولا من أجل التكفير والاعتذار، ولا من أجل التأمل، أو من أجل ملء صدورهم بالدهشة النورانية وهم على مقربة من القدس، أو لكي يركعوا متألمين، كما ركع سيدنا المسيح عليه السلام في درب الآلام، أو يرون النوافذ الخشبية الصغيرة التي راح أهلها يطلّون منها على مشهد اقتياده الحزين، وفوق كتفيه الشريفتين صليبه الخشبي الثقيل.. بلى، لم يأتوا هلوعين إلى بلادنا من أجل أن يروا  نوراً لم يروه طوال حياتهم، هناك حيث يعيشون، فجاؤوا ليروه هنا قرب كنيسة القيامة، حيث شموع الفلسطينيين التي هي ليست كالشموع، وحيث الرجاءات هنا، في الديار الفلسطينية، ليست كالرجاءات في أيّ مكان آخر في الدنيا؛ ولم يأتوا لزيارة درب الرحمة الذي شهد صلاح الدين المنتصر وهو يودّع أفراد جيوش الفرنجة المهزومة، ويواقف أسرهم، ويسمع ما يقولونه، ويقبّل أيدي أطفالهم، ويمسح على رؤوسهم؛ ولم يأتوا كي يروا باب غليوم الثاني، إمبراطور ألمانيا، الذي جاء إلى القدس، فشقّ أهل فلسطين جانباً من سور بيت المقدس ليكون باباً تعلوه قنطرة مهابة كي يدخل راكباً حصانه ترحيباً وتكريماً له؛ ولم يأتوا ليروا ذلك المذود الرّهيف المفروش بالتبن في بيت لحم، والخراف الصغيرة حوله، والضوء الذي يهبط إليه من السماء العالية شعاعات ذهب؛ ولم يأتوا ليمشوا في ظلال أشجار الزيتون التي أفاء إليها سيدنا المطارَد من اليهود آنذاك؛ ولم يأتوا إلى طبريا، إلى أجمات الشوك التي لجأ إليها ليحتمي بها من اليهود، كي يروا كيف حنّ الشوك عليه فأواه وانتصر له؛ ولم يأتوا إلى جبل قرنطل في أريحا ليروا تلك الدارة الصغيرة الأليفة التي عاش فيها سيدنا أربعين ليلة، بعدما طارده اليهود؛ ولم يأتوا كي يغتسلوا بماء نهر الأردن المقدّس،  في مغسل أريحا، حيث تعمّد سيدنا هناك، وقد صار حفيف الشجر أهازيج، وصارت تغاريد الطيور غناءً خفوتاً من حوله..

أبداً!! لقد جاؤوا إلى بلادنا الفلسطينية العزيزة، ومنذ 100 يوماً وأزيد، بعد أن امتلأت صدورهم خوفاً، وقلوبهم رعباً، وأقدامهم ارتباكاً، وأفواههم لجلجةً، وشفاههم رجفةً، لا انتصاراً للدم الفلسطيني المسفوك في القرى والمدن والمخيّمات الفلسطينية، ولا انتصاراً للبيوت التي دمّرت على أهلها، ولا للأطفال الذين رحلوا بالآلاف من دون وداع، ولا انحناءً للذين مازالوا في قبور جماعية تحت ركام البيوت التي  قصفتها الطائرات الإسرائيلية، وإنما جاؤوا ليطمئنوا على الإسرائيليين إن كانوا ينفذون الإبادة الجماعية في غزة ببراعة، ويقتلون ويطاردون وينشرون الخوف في الضفة الفلسطينية ببراعة مماثلة؛ الإسرائيليون الذين يمعنون في القتل والتدمير والعربدة البربرية منذ 76 سنة. لقد جاؤوا ليربّتوا على أكتاف القتلة والمجرمين الإسرائيليين الذين يقتلون ويدمرون ويتهددون ويتوعدون وينادون بإبادة الشعب الفلسطيني، مثلما يقومون  بالتطهير العرقي، وسفك الدم الفلسطيني الذي صار أنهاراً وبحيرات، وقتل الحياة مرّة بعد مرّة كي يصير قطاع غزة، وتصير الضفة الفلسطينية.. مقبرة!

نعم،لا بدّ من طرح السؤال الاستنكاري: أيّ غرب هذا، وأيّ جلافة هذه، وأيّ خرس غربي مستعاد حين سكت على مجازر الإسرائيليين التي اقترفها بحقّ أهلنا الفلسطينيين قبلاً، مثل دير ياسين، والطنطورة، والدوايمة، وقبية، ونحالين، وكفر قاسم؟! وأيّ غرب هذا الذي يأتي ليطمئن على راحة الإسرائيليين ورضاهم وبقائهم لأنّ الفلسطينيين أصابوهم بمقتل بعد صبر طويل، وألم عريض، ووجع لا يحتمل، وأذيات لا تعدّ، منذ 76 سنة وحتى اليوم؟!

أيّ غرب هذا الذي جاء على عجل   للفرجة على محرقة الشعب الفلسطيني في غزة والضفة؟! تُرى ألم يكفهم أنّ رائحة أجساد الأطفال والنساء والشيوخ المحترقة وصلت إلى باريس، وبرلين، ولندن، وواشنطن، وروما؟! ألم يكفهم أنهم هرعوا بقواتهم المخيفة وأساطيلهم الوحشية، وذخائرهم المهولة كيما يزيد الإسرائيليون من بربريتهم وهمجيتهم وبطشهم ووقيد نارهم في غزة والضفة.. حتى يأتي سياسيوهم لتأييدهم ومباركتهم؟!

أيّ غرب هذا الذي تباهى بالقوانين والحقوق والقيم طوال الأزمنة الحديثة، وهو يأتي إلى بلادنا الفلسطينية،منذ 76  سنة، كي يؤيد  الإسرائيلي الذي ارتدى ثوب البربرية، فيدمّر ويقتل ويعربد، مثل خنزير بري لا يهمّه ولا يعنيه ولا يحلم به سوى سفك الدم والخراب وبكاء الناس والحجر والشجر والتراب، وعويل المكان والطيور؟!

أيّ غرب هذا الذي يقف ذليلاً، متصاغراً، متهافتاً، ذارفاً للدموع أمام الإسرائيلي القاتل، ومواسياً له، وكأنه هو المقتول أو المدمّى أو الضحية أو المجلود أو المشلول.. وهو يرى طائراته ودباباته وبنادقه ورشاشاته ومدافعه تحرق بصواريخها وقنابلها ورصاصها كلّ شيء في غزة، وتدمّر كلّ ما تصل إليه في الضفة الفلسطينية، فتشلّ الحياة وتطويها في المدن والقرى والمخيّمات الفلسطينية.. مخلّفة الدم، والقبور، والبكاء، والأحزان التي ما عادت جرار الدنيا كلّها تتسع لها؟!

أيّ غرب هذا الذي يتحدّث عن الحقوق، والسيادات، والقيم، والحريات، والنبل ، والمنظمات والحقوق الإنسانية، والقوانين والإخاء، والمساواة، والخير، والرحمة، والحقّ، وهو يرى المذابح والمجازر تحدث، وعلى نحو مريع، في البيوت والمدارس والمشافي والطرق الفلسطينية، ولا يقول شيئاً، ولا يحرك ساكناً، لا بل يقمع ويهدد ويخيف أيّ جهة، في الدنيا، تحاول أن تنتصر للدم الفلسطيني المراق طوال الأيام المئة المنصرمة؟! إنه الكذب المفضوح، أيها الغرب، الذي جعلتموه صيغة عيش يعاني الفلسطينيون من ويلاتها وحرائقها، منذ نكبة عام 1948 وحتى هذه الساعة؛ إنه العار ، أيها الغرب، الذي أسّس له أجدادكم وورثتموه وأبقيتموه وحافظتم عليه وكأنه غُنم ثمين، مع أن كلّ ما فيه ليس سوى القتل والتدمير والتشريد والبطش والاخافة!! لهذا، وبسبب الحول الذي تتصفون به، إن لم يكن العماء الكلي، واللامبالاة الكلية، نقول بوضوح جهير: أنتم أيها الغربيون توءم شريك بتدمير الحياة الفلسطينية تدميراً كلياً، وسفك الدم الفلسطيني في مجازر يومية بادية على شاشات التلفزة، وتوءم شريك في التطهير العرقي، والإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني الذي بنى الحياة في فلسطين وعمّرها حضاريا، ودافع عنها ليحميها من كلّ غاز ومحتل.

نعم، العار سيلحق بكم أيها الغربيون أينما وليتم وجوهكم، ليس لأنكم خذلتم الفلسطينيين، وإنما لأنكم خذلتم العدالة؛ ولكم أن تأخذوا العبرة من صورة الفلسطينيين الآن وهم يدافعون عن حقّهم في الحياة فوق أرضهم، وفي بيوتهم ومدارسهم ومشافيهم ودور عبادتهم وأسواقهم وحقولهم.. أمّا ندمكم على ما اقترفتموه.. فهو آت لا ريب، ولعل ساعته دنت!

حسن حميد 

Hasanhamid55@yahoo.com