“عابر إلى ضفة أخرى”.. سعة التخييل والتنويع في زركشة النص الشعري
هويدا محمد مصطفى
في أيامنا هذه، أصبح من النادر أن تعثر على نصوص شعرية تستحق الاهتمام كبنية فنية مدروسة ومتقنة وكمحتوى معنوي متكامل واضح الرؤيا، ومتسق الأفكار، فكما للقصيدة شعريتها، أيضاً للعنوان شعريته، وثمة علاقة وطيدة بين القصيدة والعنوان، إنها علاقة الجزء بالكل، وعلاقة الباب بفناء الدار، فكيف لو كان العنوان “عابر إلى ضفة أخرى”.
تساؤل مطرد يتعثر في شهقة الانتحاب، ويتجاسر على الذات الداخلة، وهو خطاب عن خطاب القصيدة، ولو توغلنا في عمق نصوص للشاعر منذر يحيى عيسى، لمسنا تجاوزاً للمعنى الضيق وكسراً للمألوف إلى فضاء أوسع مؤثث بصورٍ مشحونة بالإيحاءات، وقابلة للتأويل والحدث المبهر، فالقصيدة عمل إبداعي ورسائل مشفرة شحنت بها القصيدة، ونقاط استفهام حركتها لتسدّ على المتلقي كل منافذ السهو أو الارتخاء والانعتاق من النص، ففي قصيدة “قميص الدهشة” يقول الشاعر: يلبسك الدهشة/ مثل وشاح من لهب/ ترتقي خيوط الدمع/ باحثاً عن طوق نجاة/ لروح يحاصرها الخواء/ والصخب.
هنا نجد الصور البيانية والعاطفية تتجه باتجاه الانزياحات الدلالية المعنوية، ما يحيط النص بفضاءات عاطفية وفلسفية تنسجم مع أرواح المعاني من حيث القلق والاضطراب، واستخدام مفاتيح قراءة النص كبنية فنية مدروسة متقنة وكمحتوى معنوي متكامل واضح الرؤيا ومتسق الأفكار بفيض شهي ومثير، وبموجات متتالية من الدفق الشعوري مرتبطة بحضور الآخر دوماً تخلق منه هامات ومساحات مضيئة بلغة متحرّرة تلامس برهافة مشاعرنا، حيث تتحدّد في النص مواقع الكلام في صور تخيلية بين الإرسال والاستقبال، ويؤدي ذلك إلى تماسك البنية الدلالية، والدفق الموسيقي المليء بالانفعال العاطفي عبر صور شعرية هادئة، حيث يقول في قصيدة “فرح”:
هذا الحب/ كيف له أن يعرش/ على شرفات قلبي/ مازجاً بين نبضه/ ودفء دمه/ إن لم تردد شرفات قلبه صداه؟/ وهل يمكن لفرحي/ أن يعانق بشوق مداه/ أو يسير إليه.
هذا الفيض اللغوي الآسر في دلالات الصورة والرمز والايحاء المكثف، يسمو بالغموض إلى مرتبة الشفافية التي عكست علاقة الشاعر بنصوصه أولاً، وبقدرته على التخطي والتجاوز، لما نشهده في ساحات التجريب الشعري هذه الأيام، فيبدو التحول المكاني الراسخ في وجدان وقلب الرؤيا وإبهاره الماتع في خلق صورة فنية ثرية الإيقاع تنفجر فيها طاقة اللغة، وحوارات أخرى مع الذات، وهذا يوضح مدلولاً آخر لمستوى رؤية الشاعر، والتدرج في التعبير من بنية إلى أخرى، فالصور الشعرية تجسد لنا المشهد، حتى لنكاد نراه بأم أعيننا نورساً يطير، لينقلنا الشاعر من خيال الشعر إلى واقع ملموس، وتصويرٍ يترادف مع ما نسميه بالتجسيم، وهذا ما يجعل الشعر قريناً للرسم ومشابهاً له في طريقة التشكيل والصياغة والتأثير والتلقي، وفي قصيدة “حيرة الأسئلة” يقول:
كيف للذاكرة/ أن تنشر فضاءاتها/ في انتشاءات الوقت المجعد كأديم الأرض/ مع انهمار الضجيج القادم من شمال الجهات/ ونزيف الينابيع الباكية/ وسيل الصخب الشتائي؟!/ وكيف لها/ أن تلملم الأحلام الهاربة المشاكسة/ في ليالي المهرجان؟!.
بمهارة مبدع يعرف عيسى كيف يمرّر شعاراته بين خيوط النسيج الشعري، وبين متعة التوظيف الذكي والسرد المدهش، وفق إيقاعات اللحظة المضطربة في الزمان، فيرسم مشاعره بألوان الفجر وبوارق الحب، على الرغم من انفلاق الأفق في أقسى الأزمنة، برهانه مبدع ومخيلته خصبة، استطاع الشاعر أن يكشف أعماقاً ذاتية بأبجديته ترسم ملامح الوجود والموجود بلغة جديدة، حين يتمازج الحب بين ثنايا الروح، فهو حتماً يغسلنا من أتعاب الحياة وهمومها، ومما لاشك فيه أن الشاعر يطرح أسئلة أنطولوجية عن قضايا تؤرقه وتغوص عميقاً في فكره، فكل ما حوله من الوجود والإنسان والشوق والغياب والحب والمنفى هو أنين النفس وتساؤل الروح الحائرة وتأملات الكون والقدرة على اقتناص اللحظة الزمنية بلغة شاعرية أنيقة، وذلك ليمنح القارئ مشاركة جمالية في تصور تلك الأشياء برؤية فلسفية تصويرية.
وفي قصيدة “طريق الخلاص” يقول:
كنت/ إذا ما أشرقت شمس/ أمضي إليها/ أرش الدرب حنيناً/ وألقي أماني عليها/ أشدو غناء حزيناً/ لعل ورداً عاشقاً/ يحبو في وجنتيها/ وتعود الروح لروحي القتيلة/ فقيامتي بين يديها/ وعبوري برزخ الشقاء/ إلى فردوسها/ لا يكون إلا بحرير راحتيها.
إن سعة التخييل والتنويع في زركشة النص الشعري المُحلَّى باندفاعات الرمز النقي المستخدم في مفردات الشاعر المختالة على أدراج اللغة داخل النصوص، وغيمة الخيال الطافح بماء الشعر قد أمطرت في إيقاعات الزمن، لتسكب أريجها في انفعالات الورق، فقد ملك الشاعر استعاراته بسلوك لغوي وعمق انسكب على مساحة التجربة الشعرية والتماهي مع الرؤيا في انقلاب جديد على العتمات، يقول في قصيدة “أين الفرح؟”:
كنت/ كلما قبضت على أمنية هائمة/ يتكاثر الحزن كالخلايا المشاغبة/ أو كنبات طفيلي/ في مغاور الرماد/ الحزن/ خوفاً من صقيع الأمنيات/ ومن نوم بلا مسرات قادمة/ خمسون عاماً/ ولما يزل/ هناك توق إلى بحار التيه.
يعتمد الشاعر في تشكيل قصيدته على التصوير الشعري، ونعني بذلك ما تحتويه القصيدة من عناصر السرد والحوار والتشخيص، إذ عندما يتوفر في القصيدة هذه العناصر، فإن الشاعر يكون قد استخدم هذا الفن في التشكيل الجمالي للصور الشعرية ما يثري القصيدة بإيحاءات، وخاصة عند استعمال أسلوب السؤال والحوار، فهي أداة تجسيد وتشخيص لصدر يبث فيها الحياة، وتتلون بل تتعطر نسجه للقصيدة خيطاً خيطاً، من البداية حتى النهاية، فهذا التكثيف وظَّفهُ بإتقان، ومن خلال قراءتي المجموعة الشعرية “عابر إلى ضفة أخرى” وجدت أن القصائد جاءت من صرخة منبعثة من كوامن الشاعر بأسئلة توحي بعمق الصرخة وما حوله من انكسارات، فالنص لوحة يعزف من خلالها على قيثارة الذات المنبعثة، وكأنه يصرّ على الدخول في هذه الصراعات التي نعيشها، فتبدو مفردات الشاعر حركة جديدة صاغها التناص، وهو يكتب بلغة هادئة لكنها مشحونة بالعاطفة المثقلة بالغصة، وتميّزت نصوص المجموعة بالإيضاح الذي يعكس مرايا الذات بين حركتي الزمان والمكان، وبأسلوب لغوي عميق، منح النصوص سعة التخييل والتنويع برؤية جديدة في الحداثة وعوالم الدهشة.