سياسة الكيل بمكيالين الأمريكية
ريا خوري
بعد العملية العسكرية والضربة المباغتة التي شنّتها المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول الماضي على الكيان الصهيوني، تحوَّلت القضية الفلسطينية برمّتها إلى مسار سياسي جديد مختلف في الحسابات الاستراتيجية لجميع دول الشرق الأوسط وتوازناتها ومكانتها الإقليمية أولاً، وللقوى الدولية الكبرى وصراعاتها الحادة للسيطرة على منطقتنا ثانياً. فقد أحدثت عملية طوفان الأقصى عملية تغيير نوعي في المسار السياسي وحتى الأمني والعسكري لم يكن في الحسبان على الإطلاق، ولم يكن حتى في المخططات العسكرية-التكتيكية ولا الاستراتيجية لكل الحروب التي شهدتها فلسطين منذ نكبة عام 1948م. وهذا ما دفع الكيان الصهيوني المجرم إلى التخبّط وفقدان البوصلة والتفكير بالانتقام بشكل إجرامي ودموي فقط من خلال انتهاج سياسة الأرض المحروقة والتدمير الشامل، والعقاب الجماعي، والتهجير القسري، والحصار غير الإنساني للشعب العربي الفلسطيني الذي شمل قطع كل ما يمتّ بصلة إلى أساسيات الحياة الإنسانية من ماء وغذاء ودواء وكهرباء ووقود، من أجل تدمير قطاع غزة ومقاومتها الباسلة، وكما أعادت عملية طوفان الأقصى القضية الفلسطينية إلى الواجهة بقوة عربياً وإقليمياً ودولياً، فإنَّها كشفت حجم الكذب والمراوغة والنفاق السياسي البراغماتي الغربي الأمريكي الأوروبي لاستغلالها واستثمارها لأبعد الحدود، بهدف خدمة أغراض انتخابية، أو محاولة القيام بما يمكن تسميته عملية إرضائية دبلوماسية. لقد انقسم العالم بأسره بعد السابع من تشرين الأول إلى اتجاهين اثنين متضاربين: إما التبعية المطلقة العمياء، أو العقائدية، وكلاهما أعاد مقولاتٍ لها وقعها الخاص في بروباغندا الاستراتيجية الأمريكية مثل المقولة التي قالها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن إبان عملية الحادي عشر من أيلول 2001 عندما تم تدمير برجي التجارة العالمي، حيث قال: (مَن ليس معنا فهو ضدنا)، وانتشر بعدها مصطلح مثل: (محور الشر)، كما انتشرت العديد من المفاهيم على غرار (سياسة الكيل بمكيالين)، و(حق مقاومة الاحتلال)، و(ضرورة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس) مع انتشار العديد من التساؤلات في العالم حول (لماذا يكرهوننا؟) و(لماذا يقتلوننا؟)، كما ظهر منهج الحياد السياسي وحالة التخوُّف الشعبي، مع اتساع الفجوات الهائلة بين إرادة الشعوب المظلومة الغاضبة وحكوماتها الرمادية المتردّدة. جميع شعوب ودول العالم أدركوا بشكلٍ جلي وواضح حقيقة الموقف الأمريكي من (طوفان الأقصى) الذي كان مفاجئاً أو غير متوقع على الإطلاق، مع العلم أنَّه لم يُذكَر في كل تاريخ الصراع العربي – الصهيوني الذي امتدّ نحو خمسة وسبعين عاماً، أن اندفعت الولايات المتحدة الأمريكية بمثل هذه الطريقة المباشرة الفجة والسافرة، فلم يُسَجّل على أي رئيس أمريكي منذ تشكّل الكيان الصهيوني خروجهُ على الملأ ليعترف بأنه صهيوني، وأنه إن لم يكن يهودياً فعليه أن يكون صهيونياً، ويعلن انحيازه التام إلى الكيان الصهيوني، كما كان لوزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن موقف أكثر فجاجةً عندما جاء إلى المنطقة ليعلن على الملأ أنه لم يأتِ بوصفه وزيراً لخارجية الولايات المتحدة بل بوصفه يهودياً، ولم يشهد التاريخ السياسي الأمريكي اتخاذ قرار استثنائي بإرسال حاملتي طائرات عملاقتين (جيرالد فورد) و(دوايت إيزنهاور)، وغواصة نووية، وسفن حربية مرافقة لوجستية ومدمّرات وفرقاطات إلى المنطقة مع مساعدات عسكرية ولوجستية غير محدودة ومساعدات مالية هائلة معلنة وغير معلنة. والأكثر من ذلك أنه لم يحدث منذ أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية اعترافها بالكيان الصهيوني في عام 1948م أن خاطر أحد رؤسائها بحياته ليزور الكيان الصهيوني الغارق في حرب دموية ساخنة تتعرّض فيها مدنه الرئيسة ومدن غلاف غزة إلى قصف متكرِّر يومياً.
إنَّ من يقرأ التاريخ القريب يجد أنه أقصى ما وصله الدعم الأمريكي في عام 1973م إبان حرب تشرين التحريرية كان إنشاء جسر جوي لتعويض ما خسره الكيان الصهيوني من معدّات عسكرية نتيجة الهجومين السوري – المصري، وتوفير الدعم اللوجستي الاستخباراتي من خلال تأمين صور أقمار صناعية لتسهيل عمليات التفاف القوات الصهيونية على الجيشين في الجبهتين. جاء تأكيد دعم الولايات المتحدة الأمريكية غير المسبوق هذا، سياسياً ودبلوماسياً بشكلٍ مكثَّف من خلال ثلاث زيارات متتالية لمسؤولين كبار إلى تل الربيع، أوَّلها قام بها وزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي نقل جملة من التعهّدات والطمأنات من حكومته إلى حكومة الكيان عبَّرَ عنها وقال لرئيس وزراء الكيان (بنيامين نتنياهو): (قد تكون قوياً بما يكفي بمفردك للدفاع عن نفسك، ولكن طالما أن الولايات المتحدة الأمريكية موجودة، فلن تضطر إلى ذلك أبداً، ستكون الولايات المتحدة دائماً موجودة إلى جانبكم)، وكرَّر أكثر من مرة أنَّ الكيان الصهيوني له كل الحق في الدفاع عن نفسه، ولم يتطرّق إلى أيَّةِ مبادرات تهدئة مهما كانت مدتها أو وقف فوري لإطلاق النار.
لقد كان للعدوان الصهيوني الغاشم على الشعب العربي الفلسطيني دور كبير في إبراز الخلل الكبير في المعايير الدولية للسياسة الأمريكية والبريطانية بشكلٍ خاص، ودول الاتحاد الأوروبي بشكلٍ عام وفي طريقة التعاطي السياسي والدبلوماسي والعسكري واللوجستي مع الأحداث، وتتحمَّل الولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة الأولى المسؤولية الأساسية عن هذا الاختلال وتلك السياسة المزدوجة المعايير، لأنها تقف إلى جانب الظالم والمجرم ضد المظلوم والضحية، ولم تحرّك ساكناً منذ فترةٍ طويلة لمعالجة القضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس على أرضه التاريخية.
لقد عملت الإدارة الأمريكية كل ما في وسعها على تجنيد القوى الدولية الموالية لها لمصلحة الوقوف إلى جانب الحرب التي تخوضها ضد روسيا في أوكرانيا، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية لا تُقدِّم شيئاً ملموساً للشعب الفلسطيني صاحب الحق، ولا تمارس ضغوطاً على الكيان الصهيوني بل تمدّه بكل وسائل القتل والتدمير والأسلحة المحرَّمة دولياً، وترفض وقف إطلاق النار كي تواصل قوات العدو الصهيوني عملية الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين بما يتناقض مع كل مبادئ حق تقرير المصير، وحقوق الإنسان.
لقد أفقد الدعم الأعمى للكيان الصهيوني هذه الإدارة كل صدقية لدى شعوب منطقتنا العربية والإسلامية ولدى الرأي العام العالمي، الذي استاء من تلك السياسات المزدوجة المعايير، ولا تليق بدولةٍ أعلنت منذ تأسيسها مبادئ احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان التي صدّقت على كل مواثيقها.
الخلل في السياسة الأمريكية الخارجية يتّضح أكثر فأكثر، عند متابعة المسارات التفاوضية السرية التي تجريها في الغرف المغلقة مع أطراف فاعلة على المستوى الدولي، وفي منطقتنا العربية على وجه التحديد. وهي بالفعل ساهمت في تعميم الفوضى في دول عديدة، وخاصة ما أطلقت عليه وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس (الفوضى الخلّاقة) ولاسيما في العراق ولبنان وسورية واليمن.
الواضح تماماً أنَّ الكيان الصهيوني قد فشل هو وحلفاؤه في طمس القضية الفلسطينية، وفي تحويل مسألة شعب له تاريخه وماضيه الحافل والمتجذِّر في الأرض، إلى مجرَّد قضية لاجئين، يكفي بالنسبة لهم تأمين متطلبات الحياة الضرورية جداً من طعام وشراب وتعليم ذات مستويات متدنية له.
لقد أدرك العالم متأخراً بعد عملية طوفان الأقصى أنَّ الشعب العربي الفلسطيني هو ضحية هذا الكيان المجرم العنصري وما زال يعمل على إنهاء قضيته ومشروعه الوطني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.