دراساتصحيفة البعث

“اليوم التالي للحرب”.. انتصار المقاومة

د.معن منيف سليمان

ساد على المستوى السياسي والعسكري في الكيان الصهيوني الحديث عن طريقة إدارة قطاع غزّة فيما يُسمّى “اليوم التالي للحرب”، سعياً للفرار من السقوط المدوّي الذي ينتظر حكومة الاحتلال ورئيسها “بنيامين نتنياهو”، وهو مصير حتميّ ستلاقيه مهما طالت المهل الزمنية الأمريكية المزعومة، ولن تكون وحدها في مسار الانهيار الانحداري، بل سيسحب معه منظومة كاملة من البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي جهد الأمريكيون وحلفاؤهم من دول الغرب الأوروبي في تثبيت هياكلها على مدى عشرات السنين. ولهذا فإن الحديث عن “اليوم التالي للحرب” لن يكون إلا عن انتصار المقاومة بعد حرب طويلة بادرت إليها وفرضتها على الكيان، وجعلت من النكسة والنكبة وكل مصطلحات الهزيمة تنقلب عليه، فجاء الانتصار فلسطينياً وبدعم من محور المقاومة.

قرّرت قيادة الاحتلال الصهيوني الانتقال إلى التركيز على ما أطلقت عليه “اليوم التالي للحرب”، على قاعدة أن الحرب حقّقت أهدافها ولا بدّ من وضع الترتيبات التي من الممكن أن تلي ذلك. ويبدو أن تل أبيب غير قادرة على استيعاب حجم الضربة التي تعرّضت لها في السابع من تشرين الأول الماضي، ولا سيما أنها لم تنجح في تحقيق أيّ من الأهداف التي أعلنت عنها، ولهذا لا يمكن لها الحديث في الوقت الراهن، بسبب سلسلة الهزائم والخسائر الكبيرة إلا عن “اليوم التالي للحرب” لكي تشغل الداخل الإسرائيلي عن الإخفاقات في الميدان.

فبعد نحو ثلاثة أشهر من العدوان على قطاع غزّة خسر كيان العدو الصهيوني حربه على القطاع، وتلقّى ضرباتٍ موجعة من المقاومة الفلسطينية، وكان قبول العدو الدخول في هدنة إنسانية قصيرة ومفاوضات عبر وسطاء مع المقاومة دليلاً على أن كيان العدو الصهيوني أخفق إخفاقاً ذريعاً في تحقيق أيٍّ من أهدافه العسكرية المعلنة.

ومعروف أن معايير النصر والهزيمة تحدّد حسب الأهداف المعلنة، حيث تضاءلت فرص تحقيق العدو الصهيوني لأحد أبرز أهدافه العسكرية وهو القضاء تماماً على قوى المقاومة في قطاع غزّة.

ويرى محلّلون أنه من السابق لأوانه تحديد كيفية انتهاء العدوان الصهيوني الأمريكي على غزّة، فهي أزمة فعلية ترسم وقائع الميدان تفاصيلها المتشابكة، فالعدو بات بين مطرقة الاستمرار بالغرق في مستنقع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، وسندان الضربات النوعية التي تنفّذها المقاومة الإسلاميّة اللبنانية على الجبهة الشمالية، وما بينهما مرجل يشتعل بنيران صواريخ المقاومة من اليمن والعراق والجولان، ويبقى لصمود أهل غزّة الأثر الأكبر في تعميق الشعور بالهزيمة الذي يعتري قادة العدو، وعليه لم يعد أمام هؤلاء إلا الإذعان والخضوع لإرادة الشعب الفلسطيني، فالإمعان بالكذب لم يعُد يجدي نفعاً، ولا مفرّ من السقوط ولو طالت المهل الأمريكية الزائفة.

وفي الوقت نفسه، أصبح الوضع داخل الكيان الغاصب نفسه صعباً مع انهيار الشركات الصهيونية وتراجع الاقتصاد. وقد سبّبت الإخفاقات الأمنية في التصدّي للعملية الجريئة انهيار الثقة في جيش العدو الصهيوني ومؤسساته السياسية، بينما تفيد التقارير بأن أعداداً كبيرة من الصهاينة يغادرون فلسطين وبدأت الهجرة العكسية مع استمرار الحرب.

إن حكومة “نتنياهو” اليمينية تُعدّ من أكثر الحكومات تطرّفاً وعنصرية في تاريخ الكيان، وقد جاءت في وقت يعاني فيه الداخل الإسرائيلي من الانقسام أكثر من أيّ وقتٍ مضى، إذ يحتدم الصراع بين ما يُعرف بـ”الصهيونية العلمانية” و”الصهيونية الدينية”، وهو صراع ينذر ببداية النهاية للمشروع الصهيوني.

وفي خضم هذه الفوضى المتشابكة من الاضطراب السياسي غير المسبوق الذي يعصف ببنية المشروع الصهيوني، تواصل المقاومة الفلسطينية تعميق المأزق بما يهدّد استقرار المجتمع الصهيوني برمّته. ذلك أن الكيان الصهيوني قام على عقيدة أساسية، وهي أن اليهود لا يمكن أن يشعروا بالأمان إلا بوجودهم داخل دولة واحدة يسيطرون على حكومتها وقوانينها. فاستمرار نظام الفصل العنصري ضدّ الفلسطينيين، واحتلال أراضيهم وهدم منازلهم وتجريدهم من إنسانيتهم، وأخيراً الإخفاق الذريع في عملية “طوفان الأقصى”، كل هذا نتج عنه إخفاق الكيان في أن يصبح مستقرّاً وآمناً، وهذا من أهم مؤشرات بداية انهيار المشروع الصهيوني الذي سيواجه المصير نفسه لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

ومنذ بداية العدوان الصهيوني على قطاع غزّة، شهدت القضية الفلسطينية دعماً شعبياً “غير مسبوق” وخاصّة في الغرب، فرأينا المظاهرات الحاشدة تجوب شوارع المدن الأوروبية والأمريكية وترفع أعلام فلسطين، في حين ندَّد المتظاهرون بنظام الفصل العنصري الذي يفرضه الكيان المُحتل على الفلسطينيين. ساعد على ذلك سيطرة مشاهد القصف المروعة لقطاع غزّة على منصّات الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي التي أدّت إلى تحوّلات عميقة في الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية، ازداد على أثرها دعم الشعوب الغربية للقضية الفلسطينية ما أسقط الرواية الإسرائيلية الزائفة.

إن التهديد الذي يواجه الاحتلال أكبر بكثير ممّا تمكّنت المقاومة الفلسطينية من خلقه بالفعل، لأن محور المقاومة في المنطقة أدرك أن هناك فرصة لتحقيق نبوءة تدمير “إسرائيل”، ويعتقد أن لحظة الضعف هذه فرصة لشنّ هجوم من لبنان وسورية حتى من إيران، لمحو الاحتلال الذي اعترف بالتهديد الوجودي على لسان “ألون بن دافيد” الخبير العسكري في القناة 13، الذي قال: إن إخفاق الاحتلال في صدّ “طوفان الأقصى” يحمل إمكانية حدوث تغيير جذري في التوازن الإقليمي.

وبذلك يعترفون ضمناً بدوام حركة المقاومة في غزّة التي كسرت فصائلها أنف كيان العدو الذي أخفق في قتال المقاومين وجهاً لوجه، ومن المسافة “صفر” القاتلة، وراح يصبّ جام غضبه على المدنيين العزل.

وبناءً عليه، سيجد كيان العدو نفسه في اليوم التالي للحرب في وضع أسوأ بكثير ممّا كان عليه قبله، وبعبارة أخرى سيُهزم جيشه الذي “لا يقهر” في حرب غزّة.

إن انتصار المقاومة في غزّة مسألة وقت، والعدو بدأ يترنّح وهو في حالة من التخبّط والإنهاك والاستنزاف لن يقوى على تحمّلها، والأمريكي سيلقي له حبل النجاة تحت مسمّيات سياسية وإنسانية ومبادراتٍ لحلول مؤقتة ودائمة، ولكن كل ذلك لن يغيّر في حقيقة أن اليوم التالي للحرب هو انتصار المقاومة التي ستخرج أقوى وأكثر فاعلية، في حين أن الشعب الفلسطيني سيكون أكثر اقتراباً من تحقيق أهدافه.