غزة واليمن وأوكرانيا مسمار أخير في نعش “نظام القواعد”
هيفاء علي
وصل العالم إلى نقطة اللاعودة بعدما انكشفت حيل القوى الغربية، وأصبحت غير قابلة للاستمرار، وأيّاً كانت السلطة الأخلاقية أو التفوّق الذي ادّعت الدول الغربية أنها تمارسه في الماضي، فقد تحوّل الآن إلى لا شيء على نحو لا رجعة فيه. إن نفاق وازدواجية الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين قد شوهد منذ سنوات عديدة، بل حتى من قرون، لكن الجديد اليوم هو الدليل الصارخ للعالم أجمع على هذا الدجل، حيث يؤدّي الوعي العالمي بدوره إلى الازدراء العالمي. علاوة على ذلك، يبدو أن زعماء الغرب قد أدركوا أن تمثيليتهم قد تبدّدت، وأنهم على وشك الانهيار بدليل إقدام وزراء الحكومة البريطانية على إطلاق تحذيرات مثيرة للقلق ويائسة بشأن التهديدات العالمية في محاولة لحشد الرأي العام وراء سلطتهم المتلاشية. وفي مكان آخر ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطاباً وطنياً غريباً يدعو إلى الوحدة الوطنية في خضمّ الفوضى العالمية، وقد بدا مثيراً للشفقة، وكأنه يتوسّل الاحترام. المفارقة هي أن التهديدات والفوضى التي يثيرها هؤلاء المشعوذون السياسيون هي إلى حدّ كبير نتيجة للفوضى الغربية، كما يتضح من دعمهم الفعلي للإبادة الجماعية في غزة والتمويل الثابت لنظام النازيين الجدد في أوكرانيا بهدف استفزاز روسيا. وعلى مدى عقود من الزمن، تهرّبت القوى الغربية من القانون من خلال التورّط في القتل الجماعي وشنّ الحروب غير القانونية وأعمال التخريب على نطاق عالمي. والفارق اليوم يعود إلى تضافر الأزمات ليبرز خبثها ومكائدها.
مجزرة غزة تجاوزت المئة يوم، وعدد الشهداء يقترب من الثلاثين ألفاً، إنها الإبادة الجماعية الأكثر دموية في التاريخ المعاصر، علاوة على ذلك، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين متواطئون بالكامل في الجرائم المروّعة التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي يقصف المستشفيات، ويقتل الأطباء والصحفيين، بينما يهرع السكان الجائعون إلى الشاحنات حاملين المساعدات الغذائية بين الحين والآخر.
إن ما يصل إلى 800 ألف شخص في غزة مهدّدون بالمجاعة، ومع ذلك فإن القوى الغربية المتغطرسة لم تحرّك ساكناً لوقف هذه المذبحة، أو حتى لإدانتها، بل إن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يدعمان ويسلّحان النظام الإسرائيلي دون أي ضبط للنفس، والحقيقة أنه عندما قدّمت جنوب إفريقيا اتهاماتها بالإبادة الجماعية ضد “إسرائيل” أمام محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة في لاهاي، كان بوسع العالم أجمع أن يرى أن الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى والقوى الأوروبية الأخرى وجدت نفسها في قفص الاتهام بحكم الأمر الواقع بسبب تواطئهم ورفضها بشكل قاطع المطالبة بوقف إطلاق النار في غزة، متذرّعة بتبريرات ساخرة تعيد تدوير أسوأ أكاذيب الدعاية الإسرائيلية، مثل الاستخدام المزعوم من حركة المقاومة الفلسطينية حماس للدروع البشرية أو المستشفيات كأساس.
ومن ثم تنقلب هذه القوى الغربية على اليمن، أفقر دولة في المنطقة العربية، وتقصفه فجأة لأنه اتخذ قراراً مبدئياً بمنع الملاحة في البحر الأحمر من أجل فرض وقف إطلاق النار في غزة. ويطالب اليمنيون بحقهم بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948 في العمل بشكل تضامني لمنع الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.
وبالتالي، فإن القوى الغربية تقوم ببساطة بتسليح وتمكين وتبرير الجرائم الإسرائيلية في غزة، وعندما تتخذ دولة أخرى، مثل اليمن، خطواتٍ لمساعدة الفلسطينيين، فإن القوى الغربية تزيد من عنفها من خلال مهاجمتها، إذ كان من الممكن تجنّب الأزمة البحرية في البحر الأحمر من خلال الدعوة إلى وقف إطلاق النار في غزة، كما يؤكّد اليمنيون. فلماذا لا تلتزم القوى الغربية؟ الجواب بسيط للغاية: إنهم لا يريدون إنهاء الإبادة الجماعية في غزة لأن الكيان الإسرائيلي هو معقل للإمبريالية الأمريكية والغربية في منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الجيوستراتيجية، وهو يفلت من العقاب لعقود من الزمن منذ إنشائه في عام 1948 تحت رعاية الخدع الاستعمارية الجديدة الأمريكية والبريطانية.
إن هذه القوى الغربية مذنبة بارتكاب عدوان إجرامي على بلد يعتمد أكثر من نصف سكانه البالغ عددهم 33 مليون نسمة على المساعدات الغذائية. الحرمان في اليمن هو نتيجة مباشرة لقصف الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا للبلاد، وهذه القوى ليست أكثر من دول مارقة خارجة عن القانون، يشكّل “نظامها العالمي القائم على القواعد” الذي تتبجح به غطاء وقحاً لوحشيتها الأحادية الجانب لتدمير بقية العالم. الأميركيون والبريطانيون وغيرهم من الأوروبيين يؤجّجون الإبادة الجماعية في غزة، ويقصفون اليمن ويدعمون نظام النازيين الجدد في أوكرانيا، وقد أدّت هذه الحرب بالوكالة التي قادتها الولايات المتحدة ضد روسيا إلى مقتل 500 ألف جندي أوكراني وإهدار أكثر من 200 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب الغربيين. ويتم الآن جرّ المتقاعدين والنساء والمعاقين الأوكرانيين إلى الخطوط الأمامية للمساهمة في المذبحة التي سهّلها نظام كييف المدعوم من الغرب.
إن الجرائم الجماعية المرتكبة في غزة واليمن وأوكرانيا هي جزء لا يتجزأ من “النظام القائم على القواعد” الغربي وتعكس هذه الجرائم السبب الجذري نفسه. هذا هو النظام الإمبريالي الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الذي وصل إلى نقطة اللاعودة.