ثقافةصحيفة البعث

“افتح قلبك” رواية الغوص في الذات وتجاوز الصدمات

حمص ـ سمر محفوض

صدر، مؤخراً، عن الهيئة العامة السورية للكتاب، رواية بعنوان “افتح قلبك” من تأليف “إيميلي نوتومب” و ترجمة الصحفية سهيلة علي إسماعيل.

وترصد مجريات الرواية علاقة غير عادية بين البطلة الأم “” والابنة البكر “ديان” لنعيش مشاعر متناقضة لم نألقها من النساء حين تؤدي دور الأمومة وهي في حالة توهج بين الأنا وغريزة الأم، من هنا تتبدى حبكة أو عقدة الحدث المروي, إذ تجد “ماري” الشابة الفائقة الجمال والذي كان تقريباً كلّ رصيدها لدخول المجتمع ولفت الأنظار لها في الدراسة والحياة معاً، ما دفعها باتجاه المزيد من اللهو والسهر وإهمال المسؤوليات حتى الدراسية منها, لتكشف أنها حامل بعد أن تورطت بعلاقة مع “أوليفيه” زميلها في الدراسة، ومن ثم تتزوج من هذا الوسيم ابن الصيدلاني الذي سيرث عنه تلك المهنة لاحقاً وهكذا تتحول ماري إلى أم في الوقت الذي كانت تسعى فيه إلى التمتع لأقصى حد بحياة اللهو والسهر والابتعاد عن مسؤوليات الأمومة ومتاعبها، تقول (ص )14: “شاهدت طفلتها وفكرت.. لم تعد قصتي أنا الآن.. إنها قصتك.. كنا في الخامس عشر من شهر كانون الثاني عام ،1972 وكان عمر ماري عشرٌن عاما”.

تتخذ الكاتبة “نوتومب” قرارها بشدنا إلى وسط قصتها، إنها اللحظة المواتية للبدء في نسج الحبكة الفلسفية للرواية، وتوضيح تحولات مشاعر “ماري” نحو طفلتها التي أصبحت هدفاً لغيرتها ولاسيما أن “ديان” الطفلة ولدت بجمال مبهر ورثته عن “ماري” ذاتها، ومن ثم تنقلنا “نوتومب” معها إلى مستويات أعلى وتجليات أعمق توضح تفاقم حالة الرفض والغيرة من الأم تجاه أبتها، خصوصاً عندما استحوذت المولودة على اهتمام الزوج والأهل والأصدقاء والمعارف، فتفضل أبعادها عن محيطها وتركها برعاية الجدة والجد وذلك بعد ولادتها لطفلها الثاني “نيكولا” وقد اعتدلت مشاعرها تجاه فكرة الأمومة والبنوة، إنما ليس تجاه “ديان، تقول (ص35): “لايوجد خلاصة ممكنة لهذه التقلبات، على الأقل، كانت الماما مسرورة بأن لديها ابناً، إنَّ ما يتماشى مع معنى السعادة الأمومية يسع سعادة العالم قاطبة”، إلى قولها (ص48): “ولاسيما حين رزقت بمولودها الثالث “سليا” والتي أسبغت عليها مشاعر الأمومة الفياضة لدرجة الإغراق.. كانت ماما تهذي من الفرح, وتمتلئ بالحب تجاه سليا تقبلها كما لو كانت ستأكلها”، وتتابع الكاتبة رسم الحوارات الداخلية للأم والابنة والمحيط، وتفكيك المشاعر المتباينة وما فيها من ألم ونكران يطال الطفلة، وإعادة بناء الحدث الدرامي للرواية ضمن أزمات الحرمان العاطفي الذي عانته، وقد خلف داخلها فجوة لم تغلق أبداً مع مرور الوقت، وقد تبدّت على شكل تحولات مفصلية بشخصيتها لتظهر تارة بالبحث عن بديل للأم عبر علاقتها بالسيدة “أوليفيا اوبيسون” المحاضرة في كلية الطب قسم أمراض القلب الذي تدرس فيه “ديان” بعد أن أصبحت شابة، وتارة أخرى بلعب دور الأم أو الحامية وتوجيه اهتمامها لابنة “أوليفيا” التي كانت تعاني مثلها إهمال الأم وافتقادها للحنان، وقد وجدت فيها تكراراً لطفولتها، تقول (ص129): “كانت تقول لنفسها: لست متحٌيزة، أراها عبر ذكرٌياتي كطفلة”.

من الناحية السردية، ظاهرياً، لم تخرج “نوتومب” عن المألوف بمعنى أنها قدمت مشهداً من سيناريو حياتي قد يحدث في الواقع، لكنها أجادت الغوص في أدق المشاعر والتّعبير عن تشابكات الصراع النفسي لـ”ديان”، وقد فشلت في إقامة علاقة عاطفيّة مع الأم مشيمتها الأولى وجذرها العميق، وتالياً مع محيطها، فركزت على التفوق بدراسة الطب، على الرغم من فشلها في بناء منظومة علاقات طبيعية مع الجنس الآخر، رداً على جفاف مخزونها العاطفي في سنواتها الأولى وحاجتها لإشباع مشاعرها بالحنان المفقود، وإعادة بناء علاقتها الملتبسة بالشخصية المحورية الأم كمفتاح لفهم الحياة.

مما لاشك فيه أنّ التداعي الذي اتبعته الكاتبة وقد تدفق بشكل تلقائي ضمن تيارات الوعي واللاوعي لخط التنامي السردي, مدعماً بتوازن الأحداث الزمنية التي شكلت البنية الأساسية للشخوص مجتمعة ومنفصلة معاً، وتفاعلاتها النهائية التي وضعت المجريات بموقعها الصحيح مع التركيز على الأم والابنة، وتقاطعات ذلك في الزمن المروي ضمن سياقات تومنب المحددة مسبقاً في مخيلتها الطافحة بالتشكيل، تقول (ص158): “تدربت ديان بكامل الوقت على الخدمة في قسم أمراض القلب في المشفى، وكان المرضى يتعلقون بها مهما كانت مشكلتهم، وكانت تصغي إليهم باحترام يجعلهم قادرون على تغييرعاداتهم إذا طلبت منهم ذلك”.

يتفق هذا مع السياق الطبيعي الذي تنمو فيه الحكاية، والذي ينتمي بالطبع إلى نموذج أحادي الطرف وهو هنا فعل من دون ردّ فعل من قبل الابنة التي تتقبل دور المتلقي الذي يربط الأفعال والشخصيات بسلسلة من التحليلات هي ساحة الحكاية والحيز المكاني، وتداخل مساراته السردية المحكومة أبداً بوقوع الفعل من دون المقدرة على مواجهته.

كل ما سبق يدفعنا إلى طرح السؤال حول العنوان “افتح قلبك” الذي يحمل دعوة للانفتاح في الوقت الذي تدعوك أحداث الرواية إلى الغوص بغموض المشاعر، في إشارة مضاعفة تضعك بأجواء الترقب والبحث عن خطوط التصاعد المشدودة وكيف تمكنت “ديان” من الخروج من القوقعة وإيجاد مكان طبيعي في فضاء إنساني نظيف من دون مركبات نقص أو تصفيات حساب مع الماضي: “العمل كطبيبة تخفف أوجاع المرضى”.

“افتح قلبك” رواية رؤيوية تنتمي إلى جيل ما بعد الحداثة، وتنقب في خفايا النفس البشرية وهي تلقي بوجوهنا من دون تردد تناقضاتها ومن دون تجميل أو مقدمات، تقول (ص157): “يبدو لديان أن الاحتقار كان أسوأ من الكره, فالكره قريب جداً من الحب”، ما يجعلها رواية غير تقليدية، لشخصيات خرجت عن مألوف المتوقع، وهو بالذات أحد مكونات عالم “إميلي نوتومب” الروائي الدائم، لتكون الرواية عمل مميز يضاف إلى إنجازاتها التي توصف بـ”الغزيرة”.

وفي السيرة الذاتية للكاتبة، ولدت “إيميلي نوثومب” في مدينة “كوبه” اليابانيّة  لدبلوماسي بلجيكي، وعاشت في اليابان حتى عمر الخامسة، وانتقلت بعدها إلى الصين ونيويورك وبنغلاديش وبورما ولاوس، وفي سن الـ 17 انتقلت للعيش في بروكسيل، وهناك درست فقه اللغة في جامعة بروكسل الحرة، لاحقاً، وعلى الرغم من معارضة عائلتها انتقلت للعمل في شركة يابانيّة في العاصمة طوكيو.