الفجوة اتسعت وواشنطن عاجزة عن رأب الصدع
ريا خوري
لم يتوقّف الصراع العالمي على من يقود العالم في المستقبل القريب، فالعالم بدأ يتطوّر ويتغيّر بشكلٍ متسارع، وبدأ نجم الولايات المتحدة الأمريكية كقطبٍ أوحد للعالم يخبو ويضعف أمام دول لها ثقلها الاقتصادي والسياسي والعسكري، وخاصة أمام جمهورية الصين الشعبية وجمهورية روسيا الاتحادية ومعهما مجموعة دول بريكس، كما بدأت تخسر مواقعها وسطوتها داخل القارة الإفريقية التي اكتشف زعماؤها مؤخراً حجم ونوع الاستغلال والتهميش والتسلّط الذي تمارسه الولايات المتحدة عليها، الأمر الذي أتاح للصين وروسيا الاتحادية التمدَّد داخل القارة الإفريقية بشكلٍ ناعم من خلال إقامة المشاريع والاستثمارات ورفع قدرة وإمكانية نهوض العديد من الدول الإفريقية ودعمها نحو تحقيق النمو المستدام.
من هنا، توجَّه وزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن صوب القارة الإفريقية قاصداً عدّة دول في محاولة يائسة لإعادة ربطها بالولايات المتحدة، وتلك الجولة لم تجد ما يفترض من تسليط الأضواء عليها ومتابعتها سياسياً وإعلامياً ليس لانشغال العالم بالحرب الدموية التي تشنّها قوات العدو الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، ولا لانشغال الغرب والعالم بالصراع الدائر في أوكرانيا، بل لأن الغرب الأوروبي ـ الأمريكي يقف في مفترق طرق استراتيجي بسبب التقلبات الجيوسياسية المتسارعة في العالم، حيث وصل بلينكن متأخراً بعد أن عانت القارة من الإهمال والتهميش والسيطرة والضغط عليها، ونهب خيراتها وثرواتها وتطويعها لسياساته. فالقارة الإفريقية باعتبارها جزءاً مهمّاً من هذا العالم، لم تعُد كسابق عهدها، فقد انخرطت في موجة التغيير والتحوُّل، وتعيش ثوراتٍ حقيقية، غير ملوّنة وليست منقادة من الخارج، للتحرّر من حقبة الهيمنة والعربدة والإقصاء والتهميش.
المتابع لمجريات الأحداث الدولية يدرك تماماً التغيّر النوعي للعالم، فقبل نحو عام زار وزير الخارجية الأمريكي بعض الدول الإفريقية جنوب الصحراء، منها النيجر، التي أشاد كثيراً باعتبارها حليفاً ديمقراطياً للولايات المتحدة، وبعد مغادرته بنحو أربعة أشهر أطاحت مجموعة عسكرية بالرئيس التشادي محمد بازوم، لتشكّل النيجر مع بوركينا فاسو ومالي المجاورتين رأس حربة في وجه النفوذ الغربي الأمريكي ـ الأوروبي، وتمرَّدت الدول الثلاث على فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة التي فرضت هيمنتها عليها عشرات السنين، وطردت قواتها العسكرية والأمنية، وبعض شركاتها الاستثمارية، وحظيت بالمقابل بدعم عسكري غير محدود من جمهورية روسيا الاتحادية، كما حظيت بدعم اقتصادي كبير من جمهورية الصين الشعبية. وقبل جولة وزير الخارجية الأمريكي، كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد زار عدة دول في شمال إفريقيا، وبعده ببضعة أسابيع زار وزير الخارجية الصيني وانغ يي تونس ومصر وساحل العاج وتوغو، ولم تكن هذه الجولات للنزهة أو للسياحة، بل لتمتين روابط المحور الشرقي مع الدول الإفريقية كافة والعمل على ربطها مع مجموعة بريكس، ولا سيما في هذه المرحلة الساخنة بالذات التي تشهد نفور كل دول الجنوب العالمي من سياسات القوى الغربية الأمريكية ـ الأوروبية التي بقيت أسيرة أوهامها بالسيطرة المطلقة والهيمنة على العالم، بينما الواقع هو عكس ذلك تماماً، فالحضور الأمريكي والأوروبي في إفريقيا ما زال يتدهور بشدة، بينما الدور الصيني الروسي يحظى بارتياح وثقة كبيرة، على الرغم من جميع حملات التشويه والتحريض التي يقوم بها الإعلام الغربي الأوروبي ـ الأمريكي.
وفي حقيقة الأمر، يبدو جلياً أنَّ الهدف المعلن لجولة وزير الخارجية الأمريكية إلى العديد من الدول الإفريقية كان التصدّي لنفوذ الصين وروسيا المتنامي في القارة الإفريقية، إضافةً إلى تعزيز الشراكات الأمنية والاقتصادية المهمة مع الدول التي استضافته، نيجيريا، والرأس الأخضر وأنغولا وساحل العاج، وهي دول لا تتمتع بعلاقات استراتيجية حقيقية مع الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها تقف في منتصف الطريق بين الشرق والغرب، وتتصف بسياساتها المتوازنة والبعيدة عن الصراعات الدولية الخارجية الحادة، وتخشى من رياح التغيير التي تجتاح القارة الإفريقية بأكملها، وهي تطوّرات تنظر إليها الولايات المتحدة الأمريكية بالكثير من القلق والتخوف.
لقد خاب ظنّ الولايات المتحدة، إذ لم تفضِ زيارة وزيرها بلينكن إلى تحقيق الأهداف المرجوة، كما في السابق، وكذلك زيارة نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس في شهر آذار من العام الماضي التي كانت فاشلة بكل المعايير السياسية والدبلوماسية العالمية، ليس هذا فحسب بل فشل الرئيس الأمريكي نفسه في الوفاء بالعهود التي قطعها على نفسه كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية عندما التقى العديد من القادة الأفارقة في العاصمة الأمريكية واشنطن عام 2022م، وكل ذلك يؤكد حالة النكوص والارتكاس التي تعاني منها الولايات المتحدة، فهي مشتّتة على أكثر من صعيد وموزعة جهودها وقواتها على أكثر من أزمة إقليمية وعالمية وداخلية، ولم يعُد لها أي حظوة في القارة الإفريقية، بل خسرت الكثير من الحلفاء الذين بدؤوا ينسحبون من ارتباطهم بها ويتطلعون إلى تحقيق مستقبل دولهم وشعوبهم انطلاقاً من الشرق وبحثاً عن شراكات جديدة ومختلفة مع كل من الصين وروسيا والدول الآسيوية لأنها أيضاً لا تحمل أي صفة استعمارية.