دراساتصحيفة البعث

أمريكا تصنع المآزق لنفسها

د. معن منيف سليمان

يواجه النفوذ الأمريكي جملة من التحدّيات العسكرية والجيوسياسيّة المتصاعدة في المنطقة، نتجت عن تصاعد قوّة محور المقاومة التي أخذت تقوّض قدرة واشنطن على إعادة ترميم حضورها في المنطقة كقوّة عالميّة مُسيطرة في الجغرافيا السياسيّة للمنطقة. وأمام هذه التحدّيات تسعى واشنطن إلى الخروج من مأزقها الذي تورّطت فيه بسبب دعمها للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة. ولا شك أن هذا الخروج يجب أن يبدأ من وقف العدوان على غزّة وينتهي بانسحاب قوّاتها من سورية والعراق، والاعتراف بمعادلات الرّدع والاشتباك الجديدة التي تشمل الإقليم كله في اليمن وفلسطين ولبنان وسورية والعراق.

أخفقت الولايات المتحدة منذ أن تورّطت في العدوان على غزّة في تمرير طروحها ورغبات “إسرائيل”، للالتفاف على الحلول المنصفة لقضيّة الصراع العربي الإسرائيلي كنتيجة طبيعيّة للإخفاقات الميدانيّة وتوسّع الصراع إلى ساحات إقليميّة جديدة في لبنان وسورية والعراق واليمن وحتّى مع إيران، وانعكس ذلك على مكانة واشنطن ومستقبل وجودها في المنطقة العربيّة ونفوذها العالمي.

فمن جهة، دخلت المقاومة العراقيّة على خطّ استهداف الكيان الصهيوني بشكل أوسع، حيث شملت عملياتها استهداف موانئ الكيان الصهيوني على البحر المتوسط “حيفا وأسدود”، وما يعنيه ذلك من فرض حصار بحري من المتوسط يضاف إلى حصاره من اليمن في البحر الأحمر. وزاد الموقف حرجاً حين أعلنت المقاومة العراقيّة عن استعدادها لتوسيع عملياتها ضدّ القوّات الأمريكيّة وإصرارها على إخراجها من العراق وسورية.

وتعدّ الضربة التي تلقّتها القوّات الأمريكيّة في موقع عند الحدود الأردنيّة ـ السوريّة تطوّراً في غاية الأهمّية نظراً إلى أنّه يظهر مدى قدرة المقاومة على الذهاب بعيداً في تحدّي إدارة “جو بايدن” من دون الخوف من ردّ فعل.

وهكذا وجدت واشنطن نفسها تحت الضغط فيما يتعلّق بوجودها في العراق واضطرار الحكومة العراقيّة لتفعيل ملف خروج القوّات الأمريكيّة تحت ضغط الشارع العراقي والمقاومة العراقيّة.

إن الضغط العسكري الذي تواجهه الولايات المتحدة لسحب قوّاتها من العراق، لا يُساعدها في الحفاظ على وجودها العسكري في سورية لمدّة طويلة، حيث ستواجه صعوبة في تقديم خدمات التموين والتعزيز والدعم اللوجستي لقوّاتها في سورية دون امتلاك إمكانيّة استخدام الأراضي العراقية لهذا الغرض. ولهذا فإن الحديث الآن عن احتمال انسحاب الولايات المتحدة من سورية يعكس بدرجة أساسيّة المأزق الذي صنعته واشنطن لنفسها في سورية، إذ لم يعُد لديها هامش لمواصلة وجودها العسكري في سورية والعراق إلى أمد غير مُحدّد.

ومن جملة المآزق التي تورّطت فيها أمريكا اتّباعها سياسة الاغتيالات التي لجأت إليها لحسم المعركة وانعكاس ذلك سلباً على أمن قوّات الاحتلال الأمريكي في العراق وسورية، وعلى أمن الكيان الصهيوني، وإخفاقها في تحييد جبهة الشمال مع لبنان عن المعركة سواء بالسياسة أم بالتهديد، والعجز عن مواجهة المقاومة في لبنان التي أظهرت ردعاً استثنائيّاً أرعب الكيان الصهيوني.

كذلك تورّطت في العدوان على اليمن، وتسبّبت في مأزق جديد بارتفاع وتيرة العمليات التي تنفّذها البحريّة اليمنيّة وتوسّعها لتشمل استهداف السفن العسكريّة والتجاريّة الأمريكيّة والبريطانيّة.

ويمكن الحديث عن مأزق أمريكي فيما يتعلّق بالصراع مع إيران، وخصوصاً أنه ليس في استطاعة الإدارة في واشنطن الاستسلام أمام الرغبات الإيرانية، كما لا تستطيع في الوقت نفسه الذهاب إلى حدّ ضرب أهداف في داخل إيران نفسها، وقد أخفقت واشنطن في محاولاتها تفجير العلاقات بين إيران وجيرانها في الإقليم كنتيجة محتملة لسياسة الاغتيالات والتفجيرات التي اتبعتها وما نجم عن ذلك من قيام إيران بهجمات صاروخية انطلاقاً من أراضيها باتجاه العراق وسورية وباكستان. ويعدّ هذا التصعيد إشارة صريحة للمأزق الأمريكي في التعامل مع كثير من الردود التي تقوم بها إيران وحلفاؤها في المنطقة، ما أوقع أمريكا في دوّامة الرّد والرّد المعاكس.

وفي فلسطين أخفقت واشنطن في تمرير مراوغتها لطرح حلّ الدولتين سواء عبر تسوية إقليميّة دوليّة أو عبر حلفائها بشكل منفرد ومستقل. وزاد من الضرورة الملحّة لجهود تأمين إطلاق سراح الأسرى في باريس مقابل وقف طويل الأمد للحرب على غزّة. في الوقت نفسه صدور قرار محكمة العدل الدولية بالنظر في الدعوى التي قدّمتها جنوب إفريقيا ضدّ “إسرائيل” بتهمة ارتكاب إبادة جماعيّة.

قرار محكمة العدل الدوليّة يفرض على “إسرائيل” اتّخاذ تدابير منع وقوع أعمال إبادة جماعية بحق الفلسطينيين، وتحسين الوضع الإنساني في قطاع غزّة، وقد أعطى “إسرائيل” مهلة شهر لتنفيذ التدابير التي تضمّنها قرار المحكمة، بالإضافة إلى اليقين بالإخفاق الميداني في معركة غزّة، وارتفاع عدد القتلى من جنود الاحتلال، من خلال المفاجآت التي تحقّقها المقاومة الفلسطينيّة التي نتج عنها ما يقارب 60 قتيلاً من الجيش الإسرائيلي خلال خمسة أيام باعتراف “تل أبيب” نفسها.

حقيقة، المآزق التي صنعتها الولايات المتحدة لنفسها دفعتها إلى التورّط عسكرياً في اضطرابات المنطقة العربية، وقبيل أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة تجعل دوافع إثارة هذا النقاش الآن مرتبطة بشكل مباشر بالظروف الإقليميّة بقدر أكبر من ارتباطها بسياسة الولايات المتحدة في المنطقة.

مع الأخذ بالحسبان التأثيرات السلبيّة للتورّط العسكري الأمريكي في اضطرابات الشرق الأوسط الراهنة على فرص الرئيس “بايدن” في الانتخابات الرئاسيّة المقبلة، يُمكن النظر إلى إثارة هذا النقاش على أنه محاولة للحدّ من هذه التأثيرات، لأن الناخب الأمريكي لا يُريد أن يرى بلاده تستنزف المزيد من الأموال والجهود العسكريّة على صراعات بعيدة عنه ولا تعنيه، فإن الرئيس “بايدن” يُدرك هذه الحساسية. ولهذا يجد نفسه هو وأعضاء الحزب الديمقراطي في حيرة بشأن استراتيجيتهم في منطقة الشرق الأوسط، ما يضع الولايات المتحدة في موقف صعب للغاية.

وبالمقابل، محور المقاومة يدرك حجم المأزق الأمريكي، ويعلم أن البيت الأبيض يبحث عن مخرج لواشنطن، ولهذا يعمل على استغلال المأزق الأمريكي لزيادة الضغط على واشنطن وحليفتها “إسرائيل”، وتصعيد عملياته التي باتت تهدّد وجود الكيان الصهيوني ونفوذ الولايات المتحدة، لذلك فإنّ على واشنطن أن تكون أكثر التزاماً بتنفيذ شروط محور المقاومة وعدم اللجوء للمراوغة في طرح الحلول، وأن الحلّ الوحيد للخروج من جملة مآزقها يجب أن يبدأ من وقف العدوان على غزّة وينتهي بخروج قواتها من سورية والعراق، والاعتراف بمعادلات الردع والاشتباك الجديدة التي تشمل الإقليم كله في اليمن وفلسطين ولبنان وسورية والعراق.