الاحتلال يرتكب جرائم إبادة داخل السجون
د.معن منيف سليمان
يرتكب الاحتلال الصهيونيّ جرائم الإبادة داخل السجون بحق المعتقلين الفلسطينيّين، وهي جرائم غير مرئيّة للعالم وبعيدة عن وسائل الإعلام، ولكن تؤكّدها شهادات الأسرى المحرّرين. وتأتي هذه الجرائم في إطار محاولة بائسة من سلطات العدو لإعادة بناء معادلة الرّدع التي تصدّعت نتيجة عمليّة طوفان الأقصى، من خلال تصعيده لمنهجيّة الاعتقال وإرفاق ذلك باستخدامه لأدوات التنكيل والضرب والإهانة التي تفضي في بعض حالاتها إلى استشهاد الأسرى، بهدف إزالة فكرة خيار المقاومة من الذهنيّة الفلسطينيّة وإحلال صور الضرب والعقاب الجماعي والقتل مكانها.
ومنذ بدء الحرب، نفّذ الجيش الإسرائيليّ حملة اعتقالات واسعة في الضفّة الغربيّة المحتلّة شملت قادة ومسؤولين سابقين في الفصائل الوطنيّة الفلسطينيّة.
وأكّدت بيانات لمؤسّسات فلسطينيّة أن حصيلة الاعتقالات بعد السابع من تشرين الأوّل الماضي ارتفعت إلى نحو 6500، تشمل من جرى اعتقالهم من المنازل، وعبر الحواجز العسكريّة، ومن اضطرّوا لتسليم أنفسهم تحت الضغط، ومن احتجزوا رهائن. وما زالت عمليّة الاعتقالات جارية حتّى هذه اللّحظة.
ومن جهة أخرى، يتكتّم العدو الصهيونيّ على بعض أسماء المعتقلين لديه، لهذا تواجه المؤسّسات الفلسطينيّة تحديّاتٍ كبيرة في متابعة قضيّة معتقلي غزّة، والمعطيات المتوفّرة تتمثّل ببعض أسماء المعسكرات والسجون التي يُحتجز فيها الأسرى من غزّة، منها معسكر “سديه تيمان” في بئر السبع، ومعسكر “عناتوت”، وسجن “عوفر”، وسجن “الدامون”، ومعسكرات أخرى تابعة لجيش الاحتلال.
وعلى صعيد قضيّة أسرى غزّة الذين استشهدوا في سجون ومعسكرات الاحتلال، فإنّ اثنين من أصل سبعة أسرى استشهدوا في سجون الاحتلال بعد السابع من تشرين الأوّل الماضي، أحدهما كُشف عن هويته، وآخر لم يكشف الاحتلال عن هويته بعد، فضلاً عن اعتراف الاحتلال بإعدام أحد الأسرى، إضافة إلى ما كشف عنه إعلام الاحتلال من استشهاد مجموعة من الأسرى في معسكر “سديه تيمان” في بئر السبع، إلى جانب المؤشّرات الكبيرة بما فيها ما أكّدته الجريمة التي كُشف عنها بإعدام أسيرين، ما يرفع عدد المعتقلين الفلسطينيّين الذين استشهدوا في السجون الإسرائيليّة منذ بدء الحرب على غزّة إلى سبعة.
ويشكّل سجن “مجدو” أحد السجون التي شهدت جرائم مروّعة وعمليات تعذيب ممنهجة بحق الأسرى بعد السابع من تشرين الأول الماضي وارتقى فيه أربعة أسرى، كما أنّ السلطات الإسرائيليّة تنفّذ جرائم مروّعة بحقّ أسرى من قطاع غزّة في سجن “عوفر” غربيّ رام الله.
وفضلاً عن ذلك، يصرّ الاحتلال على إبقاء معتقليّ غزّة رهن الإخفاء القسريّ، ما يحمل تفسيراً واحداً، هو أنّ هناك قراراً بالاستفراد بهم، بهدف تنفيذ المزيد من الجرائم بحقهم بالخفاء، إذ يرفض الاحتلال تزويد المؤسّسات الحقوقيّة بما فيها الدوليّة والفلسطينيّة المعنيّة بأيّ معطى بشأن مصيرهم وأماكن احتجازهم حتّى اليوم، بمن فيهم الشهداء من معتقليّ غزّة.
وتتصاعد المخاوف بشكلٍ كبيرٍ حول إقدام الاحتلال على تنفيذ إعدامات ميدانيّة بحق أسرى غزّة، وذلك مع استمرار الاحتلال رفضه الإفصاح عن أيّ معطى حول مصيرهم وأعدادهم، أو أماكن احتجازهم، أو حالتهم الصحيّة. وفي الوقت الذي تطالب فيه “محكمة العدل الدولية” بالإفراج عن “رهائن” الاحتلال في غزّة، فإنّها تتجاهل الحديث عن مصير الآلاف من أسرى غزّة هم رهن الإخفاء القسريّ منذ بدء العدوان.
وتعدّ جريمة الإعدام الميدانيّة بحق ثلاثين أسيراً من “بيت لاهيا”، شماليّ قطاع غزّة، أكبر دليل على تنفيذ جيش الاحتلال جرائم إعدام ميدانيّة ضدّ المدنيّين في غزّة. فقد تمّ العثور على جثامين الشهداء الأسرى داخل إحدى المدارس التّي كان يحاصرها، وهم مكبّلو الأيدي ومعصوبو الأعين، أيّ كانوا رهن الاعتقال، ما يعكس حجم المأساة التي يتعرّض لها المدنيّون الفلسطينيّون والمجازر الجماعيّة والإعدامات حتّى للمعتقلين منهم. وقد تكون هذه المجزرة واحدة من عدد آخر من المجازر التّي لم يتمّ اكتشافها بعد.
وكانت قوّات الاحتلال خلال اجتياحها البرّيّ لغزّة، قد نشرت عدّة مرّات صوراً ومشاهد مروّعة، حول عمليات اعتقال المئات وهم عراة، ومحتجزون في ظروف تحطّ من الكرامة الإنسانيّة وتشكّل مؤشّراً إضافيّاً لما هو أخطر وأكبر على صعيد مستوى الجرائم التّي تنفّذ بحقّهم.
وكان الكنيست الإسرائيليّ قد صدّق مؤخّراً على سريان اللوائح التي تحرم معتقليّ غزّة من لقاء المحامي لمدّة أربعة أشهر أخرى، وذلك في ضوء جملة القوانين والأوامر العسكريّة التي فُرضت على قضيّة معتقليّ غزّة بعد السابع من تشرين الأول 2023.
إنّ “إسرائيل” تستغلّ الحرب على غزّة وحالة الطوارئ والإجماع الإسرائيلي ضدّ الفلسطينييّن، بغية تشريع قانون يسرّع إجراءات المحاكمة وفرض عقوبة الإعدام على الأسرى الفلسطينيّين، دون حتّى الحق بالتمثيل المناسب أو تقديم أدلّة الدفاع، وسلب إمكانيّة الاستئناف على مثل هذه العقوبات.
ويأتي الترويج لهذا القانون وسط ضغوط من أحزاب اليمين المتطرّف، في محاولة لامتصاص الغضب الشعبيّ في “إسرائيل”، في ظلّ اتساع دائرة الاحتجاجات المطالبة بتحرير الأسرى المحتجزين، والتوصّل إلى صفقة تبادل شاملة تفضي إلى الإفراج عنهم جميعاً، وهي محاولة من المستوى السياسيّ للتلويح بورقة الإعدام داخليّاً، وكذلك خارجيّاً تجاه المقاومة للتوصّل إلى صفقة تبادل.
إنّ الاحتلال الإسرائيلي يسعى إلى أن يعيد بناء معادلة الرّدع التي تصدّعت أركانها بسبب ما حدث في عمليّة طوفان الأقصى، من خلال تصعيده لمنهجيّة الاعتقال وإرفاق ذلك باستخدامه لأدوات التنكيل والضرب والإهانة التّي تفضي في بعض حالاتها إلى استشهاد الأسرى، إدراكاً منه أنّ الأنموذج الفلسطينيّ الذي برز يمكن أن ينعش الحاضنة الشعبيّة الفلسطينيّة، ويعزّز من أهميّة ودور المقاومة وتبنّيها على أنّها خيار استراتيجيّ في مواجهة الاحتلال الإسرائيليّ، وهو ما يحاول إزالته من الذهنيّة الفلسطينيّة وإحلال صور الضرب والإهانة والعقاب الجماعي والإبادة داخل السجون وخارجها مكانه.