في ذكرى رحيله الأولى.. ناظم مهنا جسّد في إبداعه روح الزمن ومعنى الحياة
البعث- جمان بركات
في قراءتنا لأعمال الأديب ناظم مهنا وأفكاره، يمكن أن نتعلم أشياء كثيرة في فن الحديث وفن الحوار ومتعة الكتابة التي عاش الراحل مسكوناً بها وبما تمتلكه من قدرة على التغيير الاجتماعي، ولإيمانه العميق بدور الكاتب في مجتمعه وأهمية الانتماء لقضايا هذا المجتمع وحياته اليومية أولاً، وطموحه المستمر لتحقيق أسلوبه الخاص بين كتّاب القصة السورية التي اختارها دون سواها من الأجناس الأدبية ثانياً إذ يقول: “لا أزال أرى أنّ هذا الفن الرشيق مناسب للتعبير عن الأفكار دون إقحام أو زيادة في الكلام، بل عبر التكثيف والتلميح، وهذا الفن لا يوجد حدود أو شروط تقيّده، وفي المقترحات المُنجزة للقصة عند أفضل كتّابها يمكن أن يستوعب هذا الفن أطروحات عديدة في فن القول، وأن تتلاقى فيه الأجناس الأدبية وتمضي معاً في مجرى واحد”، وتجربة الأديب ناظم مهنا الذي تمر هذه الأيام ذكرى رحيله الأولى، تنوعت بين أنواع أدبية متعددة، لكن ظلت القصة القصيرة شغفه الأول، وهو صاحب الرؤية الحداثية التي تؤكد على أهمية الشكل وفنيات السرد باعتبارها صلة التواصل بين القارئ وحدث القصة التي كان الأديب مهنا يؤمن أنها لابد أن تحمل المتعة وأن تشرك قارئها في التفاعل مع سردها الأنيق وجاذبيته العالية، وفي موضع آخر يقول: “القصة فن سردي مكثف ورشيق ومهم، وهو مناسب لذوي النفس القصير في الكتابة والقراءة، ومن يميلون إلى عدم الاسترسال، وهو فن مغاير للرواية، وأظنّ أنه اشتقاق من الحكاية والصحافة، وفيه عدة مكونات منها: المقالة وقصيدة النثر”، وعن مسيرته الأدبية قال: “بدأت القراءة مبكراً، فمنذ الصِبا كنت أقرأ كل ما يقع تحت يدي، حتى ولو لم أكن آنذاك أفهم كل ما أقرؤه، بدأت أحلم بكتابة الشعر وبعد مدة وجيزة كتبت أشعاري الصبيانية في سن مبكرة، ثم بدأت تتسلل إليّ القصة، ففي مطلع المرحلة الثانوية شاركت في مسابقة للقصة أجرتها المدرسة، وصار بعدها ينظر إليّ على أنني أديب، ونشرت أول قصة لي عام 1979 في مجلة “الثقافة” لصاحبها الأديب “مدحت عكاش”، ثم بدأت النشر في الصحف اللبنانية منذ مطلع الثمانينات، وكنت في تلك المدة أكتب الشعر والقصة، ولم أكن قد حسمت أمري نحو القصة. وعن ماهية الكتابة وكيف يراها يضيف: “الكتابة حالة واعية سواء أكانت ذات دوافع مهنية أم أدبية صرفة، فهي نظام يستدعي التنبه واليقظة، ويمكن أن تكون الكتابة عفوية عند بعض الشعراء، وهذا أمر موجود وأحياناً محبب، أما بالنسبة لي، فالكتابة حالة قصدية دائماً، كما أنني في الكتابة أنحو إلى الوضوح واختيار المفردة الأيسر والأكثر فصاحة، التي أقوم بشحنها بالدلالات والمعاني من خلال المفردة وعلاقة الكلمات بعضها مع بعض، فكتبت الشعر والقصة والمقال والزاوية وقصصاً وتمثيليات إذاعية كثيرة للأطفال، لا يوجد مزج أو تداخل عندي بين الأجناس، بل أحافظ على الحدود بين الحقول الأدبية، مع إمكانية أن تتمدد الأجناس المتقاربة وتتشابك أو تتعانق، كإمكانية أن يكون السرد مكوناً في الشعر أو العكس، لكن لا يحدث هذا دائماً، وتعدّ الكتابة بحد ذاتها رسالة غير مباشرة للآخرين، أو خروج الذات خارج حدودها، والكتابة غاية بحد ذاتها، ومسؤولية الكاتب حيال نفسه وحيال الآخرين، وحيال الحقل الثقافي الذي هو فيه، أن يقدم ذاته بأفضل حال يمكنه أن يصل إليه”.
أيضاً كان الأديب مهنا شغوفاً بالكتابة عن الموت الذي نقرأه في غالبية قصصه وعن ذلك تحدث: “نعم الموت حاضر في قصصي، وهذا لم أتقصده، وأعتقد أن الحياة والموت حقيقة واحدة، بل من أكثر الحقائق تحققاً يلامسها الإنسان في كل مراحل العمر، ولا أرى تضاداً بين الموت والحياة، إلا عندما نُبسِط الأمر، وإذا كنا نحبُّ الحياة فإن الأمر يقودنا إلى القلق من الموت، والإنسان يصطدم بالموت منذ اللحظة التي يدرك فيها ذاته المتصلة والمنفصلة، وثقافتنا تُعطي الموت حيزاً كبيراً من اهتمامها، وعالم ما بعد الموت مادة خصبة للخيال وللسرد القصصي يمكن مراودتها بالتهكم للتخفيف من جديتها الحادة، نحن نخاف من موت الآخرين وفراق الأعزاء، وأنا شخصياً رغم إدراكي واقعية الموت ينتابني شعور الخوف من فراق الذين يتركوننا ويمضون”.
إلى جانب انشغاله بالكتابة الأدبية كان أيضاً حاضر عبر مقالاته النقدية التي كان ينشرها في صحف ومجلات سورية وعربية ففي مقال له بعنوان: “مدن الحضارات” يتساءل: “لماذا تستهدف مدننا الحضارية في المشرق والمغرب العربي؟! قد يكون للسؤال عدة إجابات، ولكن الحقيقة واحدة، هي أن المدن العربية الواحدة تلو الأخرى، تهب عليها رياح السموم العاتية! مدننا مرت عليها الأحقاب وعرفت الحروب والغزو وعرفت السلام والهناء، وكل واحدة منها تاريخ وحكايات، ومعالم، وقلاع، وأسواق، وحيوات، وشعراء، آداب وفنون، وأحياؤها القديمة الباقية رغم عاديات الزمن، هي هوية إنسانها المثقل بالتاريخ، ومدننا، بعجرها وبجرها، بحسنها وقبحها، وما بين هذا وذاك، تشبهنا! كما كل المدن القديمة، لماذا تمتد أيد من وراء البحار وتعبث فينا؟! هل استضعفونا، أم علينا أن ندفع ثمن أننا ورثة حضارات، ومدننا مقصد للسياح، أم هي تصفية حساب بين الحضارة الجديدة والحضارات القديمة”؟!
كذلك كان ينظر لواقعنا الثقافي نظرة لا تتطابق مع أفق الثقافة كحالة معرفية وإحاطة بالعصور والناس والقيم والثقافات، وفي أحد حواراته يقول: “العلاقات بين المثقفين في أي بلد، وليس في بلدنا فقط، “تقوم على التناحر والشللية والعداوات العابرة اللدودة أو الودية، أو الصداقات الصادقة، أو المصلحية، هذا هو عالم الفنانين والشعراء والصحفيين، ومن يسمون بالمثقفين، عالم هشّ وزائف ولكنه ضروري، فقد يكون هذا التناحر بين الأنوات الثقافية هو تعبير عن رفض الجمود والثبات والعطالة، أو رفض للفوضى الجنونية، أما دور المثقفين باعتبارهم طليعة، فهي مقولة للأسف تقادمت وعفا عليها الزمن. فلم يعد مثقف اليوم يقول كما كان يقول في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين: “لقد أتيت إلى هذه الدنيا لكي أعترض” لقد رضخ المثقفون للتبعية، وتصالحوا مع الواقع وراحوا وراحوا يعوون مع الذئاب كما قال هيغل مرة”.
في مثل هذه الأيام من العام الماضي رحل الأديب ناظم مهنا تاركاً قلمه ومحبرته ومفردات شخصيته المتفردة وتراثاً زاخراً بالإبداع، فلروحه السلام وألف رحمة ونور.