هل تتّجه الولايات المتحدة نحو العزلة دوليّاً؟
هناء شروف
حاولت الولايات المتحدة دائماً تصوير نفسها على أنها بطلة الانفتاح والشمول. ومع ذلك من الناحية العملية تميل بشكل متزايد إلى إقامة جميع أنواع الحواجز ما يؤدّي إلى ابتعادها أكثر عن المجتمع العالمي.
في الأشهر الأخيرة تم استجواب بعض العلماء والطلاب الصينيين الذين كانوا يحملون تأشيراتٍ صالحة لدخول الولايات المتحدة، بل تم ترحيلهم في المطارات. في الوقت نفسه داهمت السلطات الأمريكية ذات الصلة الشركات الصينية في الولايات المتحدة وصادرت الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر والأجهزة الشخصية الأخرى للأفراد الصينيين العاملين في الشركات.
على طول الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، قامت ولاية تكساس بوضع سياج من الأسلاك الشائكة لردع المهاجرين. تخوض ولاية لون ستار مواجهة مع الحكومة الفيدرالية بشأن أزمة الهجرة المتفاقمة التي قد تحدّد نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024 وتعكس المشاعر المتزايدة المناهضة للهجرة وكراهية الأجانب في بلد غالباً ما يكون متطرّفاً.
هذه الحوادث التي تبدو منفصلة إلى جانب العديد من الأساليب الحمائية الأخرى التي تتبعها واشنطن، مثل إبقاء إدارة جو بايدن على الحواجز التجارية العقابية التي وضعها البيت الأبيض في عهد دونالد ترامب ضد الأوروبيين، قد أرسلت إشارة لا لُبس فيها، أن الولايات المتحدة تتجه أكثر من أي وقت مضى إلى الداخل وتبحث وتهتم فقط برعاية مصالحها الخاصة.
إن الولايات المتحدة التي ربّما لا تزال القوة العظمى الوحيدة في العالم، بدأت تفقد ثقتها بنفسها وأصبحت تماماً كما وصفها المعلق السياسي الأمريكي فريد زكريا بـ”القوة العظمى التي تشكّك في نفسها”.
المزاج العام في الولايات المتحدة متشائم، ووفقاً لمسح أجراه مركز بيو للأبحاث في نيسان العام الماضي، كان لدى الأميركيين نظرة قاتمة حول الوضع الحالي للبلاد حيث أعربت أغلبية كبيرة عن عدم رضاها عن الاقتصاد والظروف الوطنية الشاملة، وهم يرون أن البلاد سوف تتدهور في كثير من النواحي في المستقبل غير البعيد.
بالنسبة للأميركيين العاديين حتى مع ارتفاع الأسهم الأمريكية إلى مستويات قياسية يقولون: إنهم ما زالوا يكافحون من أجل دفع فواتيرهم وإعالة أسرهم.
في مواجهة الأغلبية المحبطة من الأميركيين، فشل السياسيون من الديمقراطيين والجمهوريين في واشنطن باستمرار في التصدّي لتلك المشكلات الحقيقية التي تعانيها البلاد بشكل مزمن، مثل فجوة الثروة الآخذة في الاتساع ومشكلات المخدرات السائدة وتضخّم الديون الوطنية وركود إصلاحات الهجرة وبرنامج الاستحقاقات.
وبدلاً من العمل معاً لإصلاح هذه المشكلات، نراهم مشغولين بإلقاء اللوم على أي شيء تقريباً يمكن أن يفكّروا فيه، بمن في ذلك المعارضون السياسيون في البلاد والاقتصادات الناشئة بعيداً عن شواطئ أمريكا، بالإضافة إلى الحلفاء الأوروبيين الذين تدّعي واشنطن أنها ستحميهم.
تشكّلت حلقة مفرغة تماماً: المشكلات الداخلية التي لم يتم حلّها تؤدّي إلى لعبة اللوم السخيفة التي يمارسها السياسيون، الأمر الذي سيؤدّي بدوره إلى تغذية الاستقطاب السياسي وتمزيق النسيج الاجتماعي وتحفيز العنصرية والشعبوية وكراهية الأجانب في البلاد، ما يزيد من تعقيد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
الصناعات التحويلية في أميركا هي المكان الذي تلتقي فيه تلك التناقضات والفوضى، لذلك تسعى إدارة بايدن إلى إعادة تصنيع أمريكا. ومع ذلك تحاول أيضاً استرضاء اتحاد عمال السيارات المتحدين وهو اتحاد عمالي أميركي، للحصول على دعم الانتخابات من خلال دعوة النقابة إلى زيادة قياسية في الرواتب، وهو ما من شأنه أن يكلف كثيراً القدرة التنافسية لشركات صناعة السيارات مثل فورد وجنرال موتورز في السوق العالمية.
أما الجمهوريون فيحمّلون المهاجرين والمنافسين الأجانب المسؤولية عن تعثر التصنيع في أميركا، لأنهم حرموا وظائف هؤلاء المتخلفين الفقراء في الجنوب والعمال الكادحين وهذا أيضاً تكتيك انتخابي.
من ناحية أخرى، تعتمد نهضة التصنيع إلى حدّ كبير على قوة عمل ضخمة ماهرة، ويشكّل الأشخاص المولودون خارج الولايات المتحدة 18.1 في المائة من إجمالي القوة العاملة، وهو أعلى مستوى في البيانات يعود إلى عام 1996 وفقاً للبيانات التي نشرتها وزارة العمل الأمريكية في أيار من العام الماضي. ومع ذلك فإن الأجواء المناهضة للمهاجرين المتزايدة والسياسات الفوضوية في أمريكا تجعل من الصعب على المهاجرين القدوم إلى الولايات المتحدة.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن النزعة المحافظة المتطرّفة قد سمّمت بالفعل الرأي العام، ويتجلى ذلك في تصاعد جرائم الكراهية ضد الآسيويين في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة وقضايا التحرّش في المطارات.
إن الانفتاح والتسامح مع التنوّع من الأسباب المهمّة التي تجعل أمريكا أقوى دولة في العالم. الأمر المؤسف هو أن البلاد الآن لا تعترف بنفسها كأمة للمهاجرين، حيث قامت خدمات المواطنة والهجرة الأمريكية بإزالة هذه العبارة من بيان المهمة الجديد للوكالة في عام 2018، وينبغي أن تفعل ما هو أفضل من ذلك. لقد تغيّر الزمن وليس من الممكن أن نحقق النصر من خلال تبني الانعزالية كما فعلت الولايات المتحدة ذات يوم، فظلت راضية عن نفسها وغير منخرطة في الشؤون العالمية.
في عصر العولمة، أصبح الجميع مترابطين بشكل وثيق ولا يمكن لأحد أن يزدهر في عزلة. إن إبعاد الولايات المتحدة للناس لا يخدم أي فائدة للعالم أو لنفسها.