الصمت القاتل.. وعلم نفس الإبادة!
سمر سامي السمارة
يفضح رفض المؤسسات الإنسانية والمدنية الرائدة، بما في ذلك المؤسسات الطبية الكبرى، إدانة الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل” في غزة، نفاقها وتواطؤها.
فبعد مرور نحو 129 يوماً على الحرب الغاشمة على قطاع غزة، لم يعُد نظام الرعاية الصحية فعّالاً، إذ يتعرّض الأطفال حديثي الولادة للموت، وتُبتر أطراف الأطفال دون تخدير، كما يفتقر الآلاف من مرضى السرطان وأولئك الذين يحتاجون إلى غسيل الكلى إلى العلاج، وقرابة الـ50 ألف امرأة حامل لم يعُد لديهن مكان آمن للولادة، حيث يخضعن لعمليات قيصرية دون تخدير، كما ارتفعت معدلات الإجهاض بنسبة 300 في المائة منذ بدء الهجوم الإسرائيلي على غزة.
إلى ذلك، يُترك الجرحى ينزفون حتى الموت، فقد قُصفت المستشفيات ودُمّرت العيادات وسيارات الإسعاف، كما فقد حوالي 400 طبيب وممرض ومسعف وعامل في مجال الرعاية الصحية حياتهم، أي أكثر من مجموع العاملين في مجال الرعاية الصحية الذين فقدوا حياتهم في النزاعات حول العالم منذ عام 2016.
واعتقل جنود الاحتلال أكثر من 100 آخرين حيث تم استجوابهم وضربهم وتعذيبهم أو إخفاؤهم، إذ يدخل الجنود الإسرائيليون المستشفيات بشكل روتيني لتنفيذ عمليات الإخلاء القسري، ففي 30 كانون الثاني على سبيل المثال، دخل جنود “إسرائيليون” متنكّرين في زيّ عمّال المستشفى والمدنيين، إلى مستشفى ابن سينا في جنين بالضفة الغربية واغتالوا ثلاثة فلسطينيين أثناء نومهم.
وعلى الرغم من ذلك، علقت العديد من الدول الغربية تمويلها لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بتهمة “تورّط” موظفين في الوكالة بالضلوع في عملية طوفان الأقصى، الأمر الذي سيؤدّي إلى تسريع وتيرة الرعب، وتحويل الهجمات والمجاعة ونقص الرعاية الصحية وانتشار الأمراض المعدية في غزة إلى موجة عارمة من الموت.
ونظراً للأكاذيب الكثيرة التي استخدمتها “إسرائيل” لتبرير الإبادة الجماعية، بما في ذلك كذبة “الأطفال مقطوعي الرأس” و”الاغتصاب الجماعي”، من المؤكد أن هذا الادّعاء افتراء آخر، يستند إلى اعترافات المعتقلين الفلسطينيين بعد تعرّضهم للضرب أو التعذيب.
وكانت هذه المزاعم كافية لرؤية 17 دولة، من بينها الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وأستراليا واليابان، تقطع أو تؤخّر تمويل الوكالة الحيوية وهي كل ما يحول بين الفلسطينيين في غزة والمجاعة.
تدمير الأونروا
لا تسعى “إسرائيل” إلى تدمير نظام الرعاية الصحية والبنية التحتية في غزة فحسب، بل تسعى إلى تدمير الأونروا التي توفر الغذاء والمساعدات لمليوني فلسطيني، بهدف جعل غزة غير صالحة للسكن والقيام بتطهير عرقي لـ2.3 مليون فلسطيني في غزة.
اليوم، بات مئات الآلاف يتضوّرون جوعاً، فقد دمّرت “إسرائيل” أكثر من 70 بالمائة من المنازل والبنية التحتية، وقُتلت أكثر من 26.700 فلسطيني وأصيب أكثر من 65.600 آخرين، كما أصبح الآلاف في عداد المفقودين، ونزح نحو 90% من سكان غزة قبل العدوان، واضطرّ الكثير منهم للعيش في العراء، وأكل العشب وشرب المياه الملوّثة.
وفي إطار الحملة الإسرائيلية المتواصلة التي تصاعدت في ظل العدوان على قطاع غزة، وبهدف تصفية ملف اللاجئين الفلسطينيين عبر محاربة الوكالة، دعت المسؤولة السابقة في وزارة الخارجية الإسرائيلية نوغا أربيل، خلال مناقشة في البرلمان “الإسرائيلي” في 4 كانون الثاني إلى تدمير (الأنروا) فوراً لكسب الحرب في القطاع، مشيرة إلى أنه سيكون من المستحيل كسب الحرب إذا لم تُدمّر الأونروا على الفور، كما كرّر رئيس الوزراء الإسرائيلي في 31 كانون الثاني، الدعوة إلى إغلاق الأونروا، قائلاً لمندوبي الأمم المتحدة الزائرين: “إن الوقت قد حان لكي يفهم المجتمع الدولي والأمم المتحدة أن مهمة الأونروا نفسها يجب أن تنتهي”، مضيفاً: “إنها تسعى إلى الحفاظ على قضية اللاجئين الفلسطينيين، يجب علينا استبدالها بوكالات الأمم المتحدة الأخرى ومنظمات إغاثة أخرى، إذا أردنا حل مشكلة غزة كما نخطط للقيام بذلك”.
وللإشارة، أكدت منظمة الأونروا أن أكثر من 152 من موظفيها لقوا حتفهم في غزة منذ بدء العدوان “الإسرائيلي”، بمن في ذلك مديرو المدارس والمعلمون والعاملون في المجال الصحي وأطباء أمراض النساء والمهندسون وموظفو الدعم وطبيب نفسي، كما تم قصف أكثر من 141 منشأة تابعة للأونروا وتحويلها إلى أنقاض.
إن تدمير مرافق الرعاية الصحية واستهداف الأطباء والممرضين والمسعفين والموظفين، يعني أن الأشخاص الأكثر ضعفاً، والمرضى والرضع والجرحى وكبار السن، وأولئك الذين يتولّون رعايتهم، غالباً ما يُحكم عليهم بالموت.
النداء العالمي للأطباء الفلسطينيين
يناشد الأطباء الفلسطينيون الأطباء والمنظمات الطبية من جميع أنحاء العالم لإدانة الاعتداء على نظام الرعاية الصحية وتعبئة مؤسساتهم للاحتجاج، مؤكدين أنه ينبغي على العالم أن يدين الأعمال التي تحدث ضد العاملين في المجال الطبي في غزة. من جهته، كتب مدير مجمع الشفاء، محمد أبو سلمية الذي اعتقله الاحتلال في غزة: “إن هذه المراسلات هي نداء لكل إنسان، وجميع المجتمعات الطبية، وكل العاملين في مجال الرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم للدعوة إلى وقف هذه الأنشطة والهجمات على المستشفيات، وهو التزام مدني وفقاً للقانون الدولي، والأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية”.
لكن هذه المؤسسات، مع بعض الاستثناءات، إما ظلت صامتة وإما حاولت تبرير جرائم الحرب “الإسرائيلية”، وغضّ الطرف عن استشهاد طفل في غزة كل 10 دقائق، فواقع الحال، يُظهر أن هؤلاء شركاء في الإبادة الجماعية وينتهكون اتفاقية جنيف، ويتقبلون الموت كحل بدل الحياة.
كتب عالم النفس والمؤلف الأمريكي روبرت جاي ليفتون في كتابه “الأطباء النازيون: القتل الطبي وعلم نفس الإبادة الجماعية”، أن “مشاريع الإبادة الجماعية تتطلب المشاركة الفعّالة للمهنيين المتعلمين – الأطباء والعلماء والمهندسين والقادة العسكريين والمحامين ورجال الدين وأساتذة الجامعات وغيرهم من المعلمين – الذين يتحدون لخلق ليس فقط تكنولوجيا الإبادة الجماعية، ولكن الكثير من مبرراتها الأيديولوجية ومناخها الأخلاقي وعملياتها وهياكلها التنظيمية”.
دافعت مجموعة مؤلفة من 100 طبيب إسرائيلي في تشرين الثاني 2023 عن قصف المستشفيات في غزة، زاعمة أنها كانت تستخدم كمراكز قيادة لفصائل المقاومة الفلسطينية، وهو اتهام لم يتم تقديم أي دليل على صحته، كما انضمّ عمداء كليات الطب الأمريكية والمنظمات الطبية الرائدة، إلى صفوف الجامعات وكليات الحقوق ووسائل الإعلام لإدارة ظهورهم للفلسطينيين، وأغلقت الجمعية الطبية الأمريكية النقاش حول قرار وقف إطلاق النار ودعت إلى “الحياد الطبي”، على الرغم من أنها تخلّت عن “الحياد الطبي” لإدانة العملية الروسية في أوكرانيا.
من المؤكد، أن الخطورة لا تكمن فقط في عدم إدانة الجرائم الإسرائيلية فحسب، بل في تكشّف الإفلاس الأخلاقي والجبن الذي تعاني منه المؤسسات وقياداتها، فقد بات واضحاً أن هذا الإفلاس الأخلاقي يتغلغل في قلب الهوية الوطنية الأمريكية، ولهذا السبب يقف الحزبان الحاكمان والمؤسسات التي تدعمهما إلى جانب “إسرائيل”.
إن صمت هذه المؤسسات يغذّي المنطق المنحرف المتمثل في نقل الأسلحة ومليارات الدولارات لدعم استمرار الاحتلال الإسرائيلي والإبادة الجماعية، ومع ذلك من المؤكد أن التاريخ سيبجّل أولئك الذين وُجدوا تحت الحصار ليقولوا بشجاعة: لا..