مبادرات خجولة بتوجيهات شفهية.. الزراعة التعاقدية ضمان لتعب الفلاح وحماية لمحصوله
دمشق- بشير فرزان
رغم أهمية الورشات التي تُعقد بمبادرة من الجهات الحاضنة للفلاح وللقطاع الزراعي، إلا أنها تبقى مجرد أفكار ورقية بعيدة عن التنفيذ، هذا عدا عن دورها كغطاء للإخفاق الزراعي، خاصة وأنها تندرج في خانة العمل والإنجاز للاتحاد العام للفلاحين ولوزارة الزراعة دون أن تمتد بنتائجها إلى أرض الفلاح لتزرع إيجابية حقيقية. وطبعاً، نحن لا نقلّل من قيمة ونتائج الجهود التي يبذلها الاتحاد العام للفلاحين أو وزارة الزراعة داخل القاعات في أرقى الفنادق، بل نحاول التذكير بدور هذه الجهات التي لم تعد قادرة على حفر أثلام فاعلة في العمل الزراعي.
وبالعودة إلى الخسائر الزراعية الكبيرة التي يُمنى بها الفلاح في نهاية كل موسم نتيجة خطأ السياسة الزراعية، وعدم تنفيذ الوعود وتسويق المنتج بشكل صحيح وبروظة الرعاة، ووقوفهم إلى جانب الفلاحين بالصور التذكارية، وخاصة بعد الكوارث الطبيعية، نجد أن الكثير من المحاصيل الزراعية التي ينتجها الفلاح وتعدّ رئيسية تستحق أن تُصنّف بخانة الاستراتيجية، مثل الحمضيات والتفاح والعنب والبندورة والبطاطا وغيرها، لكنها تخضع مع الأسف لقانون العرض والطلب، وتبقى عملية استجرارها تحت رحمة التجار، ولذلك لا بدّ من اعتماد تجربة الزراعة التعاقدية لما لها من دور كبير في رعاية الفلاح بشكل حقيقي، كما هي الحال مع محصول التبغ الذي تتولى المؤسسة العامة للتبغ كل تفاصيل زراعته وتسويقه.
ولا شكّ أن هذا النوع من الزراعات يواجه الكثير من الصعوبات التي كانت محلّ اتفاق بين الخبراء الزراعيين الذين التقيناهم في إحدى الورشات الزراعية، حيث بيّنوا أن التنسيق من خلال التعاقد يؤدي إلى تخفيض المخاطر السعرية إلى حدّ ما، إضافة إلى التغيرات العصرية في ذوق ورغبات المستهلكين الذين أصبحوا أكثر ثقافة ووعياً عند تناول الغذاء تحديداً، فضلاً عن الطلب المتزايد على الأغذية المصنّعة ذات القيمة المضافة، وحاجة مصانع الأغذية إلى استقرار انسياب المواد الخام والاهتمام بالشروط الصحية وسلامة الغذاء والمحافظة على البيئة، تزامناً مع الاتجاه نحو التجارة والتصنيع في الزراعة، وخاصة في البلدان النامية والأقل نمواً، إلى جانب أن خصائص الإنتاج والتسويق الزراعي تلائم التعاقد في الزراعة كون المنتجات الزراعية الطازجة “الخام” كبيرة الحجم وسريعة التلف، ويحصر تعاملها في المشترين القريبين من مواقع الإنتاج، ويفرض تكلفة أعلى في حال التسويق لمناطق أبعد عن مراكز الإنتاج، بينما الصناعات الغذائية تتطلّب منتجات زراعية معينة ذات مواصفات محدّدة، وهذا يعتبر مانعاً لخروج الفلاح من مجال الإنتاج ويجعل عرض المنتجات الخام غير مرن.
وأكدت الدراسات الزراعية التي أعدها المركز الوطني للسياسات الزراعية أنه لا بدّ من عملية تنظیم وترتیب للرحلة التسويقية قبل الدخول بمضمار الزراعة التعاقدية لتتلاءم مع شروطها، وبذلك تكون الزراعة التعاقدية دافعاً لتنظیم بنیان التسويق الزراعي بغیة حلّ جزء من مشكلاته، واستجابة لارتفاع تكالیف المعاملات ومخاطرها والاستفادة من مزایا التطبیق والتوجّه نحو التعاقدات الزراعیة، والمتمثلة بزيادة دخول المزارعین وخاصة الصغار منهم، والاستفادة من الفرص التسويقية المتاحة وزيادة معدلات التصدیر، وخلق المزيد من فرص العمل في قطاع الصناعات الزراعیة، وتعزيز القدرة التنافسیة للمنتجات الزراعیة، وبالتالي تحسین أوضاع الميزان التجاري، والارتقاء بالمستوى الصحي لسلع الغذاء وسلامة الغذاء.
ومن مزايا الزراعة التعاقدية للمنتجين، ولاسيما الصغار منهم، نظراً لما تحققه من ضمانات تسويقية واستقرار يطمئن المزارع لتسويق منتجاته بأسعار مرضية، وذلك قبل اتخاذ قرار الزراعة، إتاحة الفرصة للمزارعين لاستخدام تقنيات زراعية متطورة تحقق زيادة في الإنتاجية أو تحسين مستوى جودة المنتجات أو كليهما، الأمر الذي يؤدي إلى تحسين مستويات دخول المزارعين ويقلّل من معدلات الفقر الريفي، كما تتيح الزراعة التعاقدية مصادر تمويلية إضافية لصغار المزارعين، حيث يمكن استخدام العقود المبرمة كضمانات للحصول على قروض زراعية من النظام المصرفي، إضافة إلى أنها تهيئ الظروف التسويقية الملائمة لإقامة العديد من عناصر البنية التسويقية، مثل المخازن المبردة ومحطات الفرز والتعبئة، وذلك بصورة مركزية اعتماداً على العمل الجماعي، الأمر الذي يحقق وفورات مهمّة في اقتصادات تشغيل هذه التسهيلات التسويقية، وتتيح إمكانية إقامة مناطق زراعية متخصّصة للحدّ من انتشار الأمراض والأوبئة الزراعية، إلى جانب إتاحة فرص ملائمة للمزارعين لتنمية مهاراتهم وخبراتهم في مجال تطبيق تقانات الزراعة الحديثة.
وفيما يخصّ مزايا هذه الزراعة بالنسبة للمصدّرين والمصنّعين والتجار، أكدت الدراسات أنها تنحصر بإمكانية التعاقد المسبق على تصدير كميات محدّدة من المنتجات الزراعية، مما يساعد على انتقاء الفرص التسويقية الملائمة في الأسواق الخارجية، وزيادة معدلات التشغيل في مشاغل ومصانع التصنيع الزراعي، الأمر الذي يقلّل من تكلفة عمليات التصنيع ويزيد القدرة التنافسية للمنتجات المصنّعة، وزيادة القدرة على التحكم في نوعية السلع المسوقة أو المصنّعة ودرجة تجانسها وجودتها وفق الاتفاقيات المبرمة بين الطرفين، الأمر الذي يزيد من كفاءة عمليات التسويق أو التصنيع برمتها.
وما يثير الاستغراب أنه رغم الحديث المتكرّر حول النهوض بالقطاع الزراعي وتفعيل عمليات التصنيع الزراعي واتباع سياسة تسويقية متكاملة للمواسم الزراعية، إلا أنه لا یوجد حتى الآن نظام متكامل مُنظم للزراعة التعاقدية، وكل ما يتمّ عبارة عن ترتیبات شفهیة ومبادرات خجولة للتعاقد یدیرها كبار المصدّرین والمصّنعین، دون أن يتمّ تعميمها على نطاق أوسع فیما یتعلق بالقطاع الخاص، بينما في القطاع العام هناك شبه تعاقدات غير ناجحة بالكامل ويشوبها الكثير من الأخطاء والعثرات بين عدد من مؤسسات الدولة والمزارعین ضمن إطار الجمعیات الفلاحیة، وتتطلب نهجاً مختلفاً عما هو متبع حالياً، بالإضافة إلى تجربة المؤسسة السورية للتجارة، فمؤسسات تسویق المحاصیل الاستراتیجیة كالقمح والقطن والتبغ تقُدم مستلزمات الإنتاج للمزارعین فیما یخصّ هذه المحاصیل، على أن یتمّ التسويق لصالحها بعد الحصاد بوساطة المصرف الزراعي.