مستقبل الهيمنة الأميركية على النظام الدوليّ في ضوء معركة طوفان الأقصى
تشهد القوة العالمية (راهناً) تحولاتٍ عميقة في التكوين (الطبيعة) وفي التوزيع العالمي للهيمنة، بالتزامن مع تآكل (الهيمنة الأحادية) على النظام الدوليّ، وعدم قدرتها على وضع جدول الأعمال الدوليّ منفرداً كما كان في العقدين الماضيين، طبعاً جزءٌ من هذا التحول مردّه الضعف البنيوي للقوة المهيمنة، وجزءٌ منه مرتبطٌ بزيادة منسوب القوة للقوى العالمية (الصاعدة والناشئة)، وجزءٌ آخرٌ مرتبطٌ بتبعات الأزمة المالية العالمية (2008).
وإذا كان تحول القوة أو بالأدق تحولات القوة أمراً واقعاً ومستمراً ولكنّه بطيءٌ، إلّا أنّ اتجاهات توزيع الهيمنة عالمياً، وقواها الأساسية (دول قومية، منظمات حكومية غير حكومية، شركات متعددة الجنسيات) والنتيجة التي قد تفضي إليها، غير محسومةٌ بعد، فالصعود التاريخي للغرب منذ القرن السادس عشر، بات في مرحلة التراجع، السياسي والاقتصادي والقيمي، بعكس الصعود التاريخي للقوى التعديلية الراهنة، التي تحاول الخروج من تبعات قرون الإذلال والتحكم الغربي إبان الحقب الاستعمارية والتي هيمنت عليها القوى الأوربية سابقاً، وتحاول بناء نظامٍ دوليٍّ أكثر توازناً واستقراراً.
طبعاً، سيكون من السذاجة تصور أنّ الغرب (بنزعته الإمبريالية) وفي مقدمه الولايات المتحدة سيقبل بالتنازل عن موقعه في النظام الدولي (بسهولةٍ) لمجرد صعود الصين وروسيا أو تمرد بعض دول الجنوب العالمي وطموحات بعض القوى الوسطى الناشئة، على العكس من ذلك، تتجه الولايات المتحدة نحو محاولة استعادة موقع الهيمنة الدوليّ، بإتباع أساليب القوة الصلبة والناعمة والاحتواء في آنٍّ واحدٍ ضدّ خصومها، وتجديد تعاهداتها مع حلفائها، وبناء أنماطٍ جديدةٍ من التفاعل مع أصدقائها وشركائها الدوليين، كنمط الأطراف المصغرة التي تتبعه في شرق وجنوب شرق القارة الأسيوية وراهناً “الشرق الأوسط”، وهو ما سيرتب على مرحلة تحول القوة العالمي تبعاتٍ سلبيةٍ من عدم الاستقرار الاستراتيجي العالميّ، وزيادة منسوب التهديدات والاحتكاكات وربما الصدامات الدولية.
كما أنّ النتيجة التي قد تفضي إليها مرحلة تحول القوة العالمي الراهنة فهيّ أيضاً غير محسومةٍ بعد، ومرتبطةٌ بعدّة متغيراتٍ دولية، في مقدمها: نتيجة الحرب الأوكرانية (2022) وهنا تحديداً ليس المقصود النتيجة الميدانية المباشرة بقدر ما هو مستقبل العلاقة الروسية الأوروبية في ضوء نتيجة تلك الحرب، إضافةً إلى نتيجة الاحتواء الأميركي / الغربي للصين وتفاعلاته، ومدى قدرة دول الجنوب العالمي على خلق كتلةٍ من عدم الانحياز الجديد بدأت إرهاصاتها بالتشكّل راهناً، وسيناريوهات تلك النتيجة تتأرجح بين: ظهور عالمٍ متعدد الأقطاب (دولة قطب، إقليم قطب، منظمة دولية قطب)، أو تجديد الهيمنة الغربية على النظام الدوليّ وقلنا الغربية عمداً ولم نقل الأميركية، لأنّ هذا الخيار متحدد بقدرة الولايات المتحدة على تجميع الغرب من خلفها ثانيةً بعد الحقبة الترامبية خصوصاً (أميركا أولاً)، أمّا الخيار الآخر لتلك النتيجة أنّه لن تكون هنالك أيّ دولةٍ قوة مهيمنة في النظام الدولي، وقد نرى تلك الهيمنة (ربما) تمارس من فواعل أخرى كالشركات الرقمية متعددة الجنسية (ظهور فواعل رقمية).
وفي خضّم هذه المتغيرات الدولية أتت حرب غزة (طوفان الأقصى) لتفرض نفسها متغيراً لا يقلّ أهميةً عن الحرب الأوكرانية لجهة تأثيرها على شكل وتوزيع الهيمنة والقوة العالميين، والأمر ليس مرتبطاً بتفاصيل القضية الفلسطينية داخلياً بقدر ارتباطه بالساحات التي اشتعلت لأجلها، فمع توسع نطاق الحرب لتشمل لبنان واليمن والعراق، باتت هذه الحرب متغيراً لا يمكن تجاهله في تحديد اتجاهات الهيمنة مستقبلاً، فمع تشكّل التحالف الأنغلو سكسوني في اليمن، والضربات الأميركية في العراق، واتجاه أوروبا نحو إنشاء تحالفٍ بحريّ في البحر الأحمر، باتت حرب الطوفان حاسمةً لاتجاهات الهيمنة الدولية، مبنيةً على متغيراتٍ أبرزها: صورة الردع الأميركي، وحجمه، وفعاليته، إضافةً إلى تقدير حلفاء وخصوم واشنطن في آنٍ لهذا الردع وفعاليته.
تعتقد الولايات المتحدة أنّ صورة الردع الأميركيّ في اليمن والعراق على خلفية طوفان الأقصى وتحديداً (الهيمنة البحرية) كافيةٌ في الوقت الراهن لاستعادة موقع الهيمنة في النظام الدوليّ الذي تآكل منذ العام 2008، مستغلةً جملةً من الأحداث أبرزها: انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية، وتحولها لحرب استنزاف، وعدم قدرة الصين على التأثير العسكري راهناً في الشرق الأوسط، وعدم قدرة الجنوب العالمي على التبلور كقوةٍ دولية، إضافةً لضعف فاعلية التكتلات الاقتصادية “الناشئة” من الناحية السياسية فمازالت أغلبها منتدياتٌ سياسيةٌ لا تحالفاتٌ فعليةٌ، ورغم ذلك ظهرت ثلاث مؤشراتٍ معاكسةٍ لا يمكن تجاهلها، المؤشر الأول أنّ الولايات المتحدة لم تستطع حشد حلفائها التقليديين في غرب أسيا في تحالف “حارس الازدهار”، والمؤشر الثاني إنشاء أوروبا (الاتحاد الأوروبيّ) لقوةٍ دوليةٍ في البحر الأحمر (خطة أسبيدس)، والثالث هو الردع الإيرانيّ خارج الحدود كما حدث في باكستان والعراق، هذه المؤشرات الثلاث تدلّ على عمق الأزمة الأميركية لناحية تقدير حلفاء الولايات المتحدة لها كمهيمنٍ دوليّ، واتجاههم نحو خياراتٍ أخرى، فخطة “أسبيدس” هيّ مؤشرٌ على تنامي تيار إنشاء القوة الأوروبية في السياسات الأوروبية بعيداً عن سياسات الناتو وهيمنة واشنطن على القرار الأمنيّ والعسكريّ لأوروبا، وردع إيران الإقليميّ بات أقوى مع طوفان الأقصى وأظهر مزيداً من تأكل الردع الأميركي إقليمياً.
إنّ أكثر ما تخشاه الولايات المتحدة أن تكون معركة طوفان الأقصى بمثابة الرصاصة الأخيرة القاتلة على صورة الهيمنة الأميركية على النظام الدوليّ، بعد تعرضها لهزاتٍ عنيفةٍ مع ضعف الاستجابة العسكرية الأميركية في أوكرانيا (2022)، وقبله صورة الانسحاب الأميركي من أفغانستان (2021)، وتفلّت حلفاء الولايات المتحدة من قيود واشنطن في علاقتهم المتنامية مع روسيا والصين.
ويبقى العامل الأكثر حسماً على صورة الردع والهيمنة الأميركية إقليمياً هو استجابة الولايات المتحدة عسكرياً لما سيحدث في لبنان إذا اندلعت مواجهاتٌ شاملةُ بين “حزب الله” و”الكيان الإسرائيليّ” ونتائج هذه الاستجابة على مجرى المعركة.
ختاماً، لم تستطع الولايات المتحدة بعد استعادة صورة الهيمنة والردع إقليمياً في حربها على اليمن مع بريطانيا، وجلّ ما قامت به الولايات المتحدة هو “موازنة التصعيد” وإظهار “سرعة الاستجابة” مع جبهات المقاومة، ولأول مرةٍ في التاريخ المعاصر لأميركا تجد نفسها مضطرةً للاستجابة إلى تصعيد خصومها، بعد تربعها لعرش الهيمنة في النظام الدولي لعقودٍ ثلاثةٍ خلت، وهذا الأمر يفتح سيناريوهات تبدو معقدةً للمرحلة القادمة عالمياً وإقليمياً في غرب أسيا، تتراوح معطياتها بين اقتناع الولايات المتحدة بموقعها الراهن في النظام الدوليّ (قطبٌ دوليٌّ) أو استمرار سعيها لإعادة صورة الردع والهيمنة الأميركية (الأحادية القطبية)، ومعها تبدو الولايات المتحدة راغبةٌ بإخراج نتائج طوفان الأقصى من معادلة الهيمنة على النظام الدوليّ وإبقاء حرب أوكرانيا واحتواء الصين كمحددين فقط لمستقبل هذه الهيمنة، لذلك تستعجل الولايات المتحدة تسويةٌ إقليميةٌ سياسيةٌ قبل دخول الحرب الأوكرانية ربما مراحل جديدة.
الدكتور سومر صالح – عميد كلية العلاقات الدولية والدبلوماسية – جامعة الشام