ثقافةصحيفة البعث

وليد عبد الرحيم.. عاشق الفن والأدب

لم تفقد الساحة الثقافية والأدبية في سورية برحيل المبدع الفلسطيني وليد عبد الرحيم مؤخراً شاعراً أو روائياً أو مخرجاً فحسب، بل فقدت مثقفاً شاملاً أبحر في عالم الأدب والفن، فكان شاعراً ومسرحياً ومخرجاً سينمائياً وكاتب مقالات في مجلات ثقافية متعدّدة وروائياً ولِدَ في مخيم اليرموك ودُفِن فيه، وقد آلمه كثيراً ما حلَّ به من دمار خلال الحرب على سورية بسبب التنظيمات الإرهابيّة، وقد فقد بيتَه ومكتبتَه الكبيرة، وحين كان يتكلم عن المخيم كان يقول: “لمخيّم اليرموك سحرٌ خاص وذاكرة استثنائية، وحتى السوريين الذين لم يسكنوا فيه المكان تَراهم دامعين عند ذكره، فاليرموك محفور في ذاكرة كلّ من عرفه باعتباره مكاناً يعجّ بالثقافة والتنوع، فكيف إن كان مثلي مولوداً فيه وبيته الآن مدمر هناك.. أنا وعائلتي فقدنا جمالية المكان منذ خروجنا منه، فقد خرجنا من مكان مميز وفقدنا حساً عميقاً بالتنوع والفخامة، فمخيم اليرموك ليس أبنية إسمنتية فقط بل حالة نادرة في تاريخ الأمكنة”.

توثيقٌ روائي

في العام 1982 مزّق عبد الرحيم محاولته الأولى “المنفى” في كتابة الرواية والتفت إلى كتاباته الأخرى لتكون الرواية هي آخر توجّه له في الحقل الأدبي في سنواته الأخيرة وليصدر روايته الأولى “لست حيواناً” عام 2021 بنفس الأسلوب الذي كتب فيه “المنفى” ويقوم على الجمع بين الشعر والنثر وما هو روائي وما هو سياسي، وقد بيَّن في حفل توقيعها الذي أقامته الأمانة العامة للاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الفلسطينيين أنه حاول أن يقدم من خلالها شكلاً جديداً للرواية العربية بخروجه عن النظام الأكاديمي للرواية العالميّة والعربيّة، وهو شكل مثير للجدل، قدم من خلاله سرداً فلسطينياً جديداً عبر توظيف كلّ مهاراته لكتابة ما هو مختلف عن المألوف على صعيد التقنيات والمضمون، مع إشارته إلى أن الرواية تضمّنت جزءاً كبيراً من سيرته الشخصيّة، وهي مختلطة الموضوعات، لكنها تصبّ في بوتقة واحدة في المعنى حين وقف فيها عند حال الفدائي الفلسطيني الذي غيّر الأمكنة من أجل أن يستأنس أكثر بيقينية المقاومة سبيلاً وحيداً لإرغام المحتل الإسرائيلي على الرحيل، مشيراً إلى أن رواية “لست حيواناً” متمردة بجرأة تناولها لأحداث تاريخية خطيرة ومفصلية في حياة الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين، يختلط فيها ما هو واقعي مع ما هو تخيّلي ليستلهم من الذاكرة الفلسطينية في روايته الثانية “زريف الطول” الصادرة عن دار دلمون الجديدة والتي قام بتوقيعها قبل رحيله بفترة قصيرة شخصية “زريف الطول” وقد وصفها الكاتب د. حسن حميد بأنها رواية تاريخيّة وكتاب يمجّد تاريخ البطولة الفلسطينية في شخصية زريف الطول البطل الشعبي الذي اخترق حدود ما هو طبيعي في الشخصية البشرية لتصير حلماً شعبياً ومعادلاً موضوعياً للألم الفلسطيني، والباعث على الأمل والانتصار من خلال رواية تمرّدت على الرواية الكلاسيكية بتقنيّاتها الغريبة التي استخدمها الكاتب مستفيداً من كونه يعمل في الإخراج السينمائي، فنجح في توظيف مهاراته السينمائية لينجز في النهاية رواية حديثة بلغة سلسة قريبة من القارئ، في حين رأى الناقد أحمد علي هلال أن الرواية هي رواية الذاكرة الفلسطينية بامتياز، وذات نزوع إلى تأبيد البطولة الفردية والجمعية وتوثيق أكثر من مرحلة في تاريخ القضية الفلسطينية، وهو توثيق روائي احتفى بالمراحل والشخوص ونمو فكرة الثورة المقاومة للعصابات الصهيونية والاحتلال الإنكليزي وإرهاصات المقاومة من خلال سيرورة فدائي وشخصيات تاريخية كعز الدين القسام وعبد القادر الحسيني، وغيرهم، ليخلص الكاتب إلى تاريخ روائي عبر منظورات شخصياته الواقعية الملحمية في آن.

الشعر مسٌّ لا فكاك منه

وكشاعر في رصيده ثلاث مجموعات شعرية: “بدايات، بيارق، بكاء على صدر العراق” بيَّن الراحل في أحد حواراته أنه بدأ بكتابة الشعر في المرحلة الإعداديّة بخجل دون أن يجرؤ على أن يطّلع أحد على ما كان يكتبه خوفاً من الانتقادات التي قد تطول كتاباته، وبالمصادفة وقعتْ كتاباتُه في يد زميل له، فأطلع أستاذ اللغة العربيّة في مدرسته عليها، فنصحه بالاهتمام باللّغة العربيّة، وإن فعل فسيغدو شاعراً مهماً، فالتفت أكثر إلى القراءة خارج الكتب المدرسيّة، متأثراً بالمتنبي وأبو العلاء المعري وبابلو نيرودا ومحمود درويش، وأكد أن مجموعتيه في البدايات كانتا ساذجتين، تكتنف لغتَهما وأجواءهما الخطابةُ: “وأنت لا تستطيع أن تفعل شيئاً حيال ذلك، فتلك سمة البدايات في عالم صاخب ولدت فيه صدفة قسرية” واصفاً علاقته بالشعر بأنه يؤمن أنه من الخطأ اعتبار الغوص في الشعر علاقة، فالعلاقات تنتهي أو تتوقف أو يحدث خصام معها، إلا أنه كان يعتقد أن “الشعر يختلط بيولوجياً بالممسوس به، وهو مسٌّ لا فكاك منه”، مؤكداً أن الشاعر لا يختار أن يصبح شاعراً، فتلك فضيلة الفطرة، وربما سمة جينية، فإشكالية الشعر برأيه أنه كالمتفجرات عبوة تنفجر ولا تتوقف عن خوض تأثيراتها، مبيناً أنه كتب معظم قصائده عن الهمّ الفلسطيني وثوراته وفلسفة الثورة، لكن ديوان “بكاء على صدر العراق” أتى زمنياً في لحظة هجوم دولي يهدف لتدمير حضارة وتاريخ العراق الذي منح الإنسانية الكثير، والديوان إلى جانب ذلك يحتوي ما هو فلسطيني وسوري وعربي وإنساني لقناعته أن القصيدة مهما كان موضوعها ومفرداتها وفحواها فهي ذات جموح إنساني، بما فيها القصيدة السياسية.

 فضاءات فنية

اتّجه عبد الرحيم إلى كتابة المسرحيّة في المرحلة ذاتها التي بدأ فيها بكتابة الشعر، وكان يرى أن المسرح هو أبو الفضاءات الفنية، وفيه سرّ بنيوي يفشل في تفسيره، وأن الكتابة أو الإخراج للمسرح خوضٌ في عالم مختلف، وأن تجربته (المتواضعة) فيه أغنت شخصيته بالدرجة الأولى لأنه يصقل الروح والفكرة والتجربة والمتعة في آن واحد، وكان يؤسفه أنه ورغم متعته الخاصة وفائدته الجليلة ونكهته الأسطورية فإن وقته قد ولّى.

الإخراج السينمائي

دخل وليد عبد الرحيم عالم الإخراج السينمائي مصادفةً في نهاية الثمانينيات حين أنجز في البداية أفلاماً وثائقيّة توثق ما يشير إلى التمسّك بالأرض الفلسطينيّة ونزوع النّاس للعودة، وبعد ذلك تولّدت لديه رغبةٌ في تعلّم فن السينما، وظلّ الأمر كذلك حتى التقى بمديرة المعهد العالي للسينما في القاهرة التي نصحته بالدخول إليه، وحين تخرّج فيه عاد إلى دمشق وعمل في البداية بالدراما التلفزيونية فاكتسب الخبرة على أرض الواقع، ثم سرعان ما أسّس مؤسسة إنتاج فني، فبدأ بإنجاز أفلام قصيرة ذات ميزانيّات إنتاجيّة منخفضة، وكانت أفلاماً إنسانيّة اجتماعيّة، إلى جانب فيلم حمل عنوان “أم الأسرى” تحدّث فيه عن والدة سمير القنطار التي كانت تتبنّى الأسرى، وكان يصرح دوماً أن الإخراج للسينما لا يعني شيئاً إلا بقدر ما هو شكلٌ من أشكال التعبير البصري والسمعي، مع تأكيده أن السينما جهدٌ فني متكامل، يقوده المخرج ولا يصنعه فعلياً، وأن الإخراج هو استغلال لجهود مجمل الطاقم الفني، لكنه استغلال إيجابي يُنتج جمالاً وفائدة ومتعة، وكان الراحل الذي كان يعلّم فنون السينما بطريقة ووسائل أكاديمية ضمن برنامج التطوير الفني العربي يعتز بأن طلابه أصبح بعضهم من أهم المخرجين وكتّاب السيناريو وبقية الاختصاصات.

خيارٌ مهني

ظل وليد عبد الرحيم يكتب مقالاته وينشرها حتى قبل رحيله بفترة قصيرة وقد بدأ بكتابتها في سنّ العشرين، فكان ينشر في وسائل الإعلام المكتوبة، وخاصّةً الفلسطينيّة التي كانت كثيرة، وكان النشر متاحاً فيها، وكانت مقالات رأي عن الوضع الفلسطيني والمقاومة، وفي فترة الثمانينيات احتضنت مجلة “الهدف” نضجه في هذا المجال، وكان يؤكد أنه لم يعمل بها كمهنة: “هناك شيء يشابه حالة الشعر: أحتسي القهوة كل صباح مع غسان كنفاني وناجي العلي”، مبيناً أن تجربته الطويلة فيها وفي مركز الهدف الذي كان يعمل فيه أثمرتْ ستة عشر كتاباً، وكانت محطة تختلف عن محطات العمل الأخرى التي خاضها في مجال الصحافة التي كانت بالنسبة له خياراً مهنياً أكثر من كونه عملاً ثقافياً أو إبداعياً تكتنفه ميكانيكيّة تشترط تقييد الرأي في غالب الأحيان بسبب ارتباط الوسيلة بمؤسسة أو دولة، أو صحيفة تخضع لمنهجيّة متبعة يجب الخضوع لها.

سيرة

وليد عبد الرحيم، شاعر وكاتب ومخرج سينمائي فلسطيني- سوري، ولد في مخيّم اليرموك بدمشق عام 1964 وتنحدر عائلته من نحف/ عكا في فلسطين، له 18 كتاباً في الشعر والأدب والسياسة والتوثيق، ونشر عشرات المقالات في الجرائد والمجلات الدورية، عضو اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، مدير تحرير مركز الهدف للدراسات والتوثيق، مدير برنامج التطوير الفني العربي لتعليم مواد السينما.

أمينة عباس