ثقافةصحيفة البعث

“العقبة” وتراثيات البيوت الحلبية.. وسؤال للجهات المعنية؟

حلب – غالية خوجة

تصدح إيقاعات الحياة في أحياء حلب القديمة التي لن تنسى ما مرّ عليها من تدمير ممنهج نفذه الإرهابيون، كما لن تنسى مأساتها مع زلزال 6 شباط 2023.

تتفاعل هذه الإيقاعات التاريخية مع الأرواح والحجارة والجذور والأهالي والزوار، وتنبت الذاكرة من جديد في التربة، وينبت معها الحزن والأمل، ويتفرع الصمت بين النباتات بلون أخضر يتمايل على أصوات الناس في الأسواق، وأصوات الأغاني الحلبية بين قدود وموشحات، لأن أهالي حلب لا يعرفون الحياة من دون موسيقا.

أطياف عابرة للأزمنة

تنبت الموسيقا مع رائحة المدينة القديمة الخاصة، فيشمّ العابر عطور الأزمنة، ويسمع حكايات الناس التي سكنت وزارت حلب منذ قرون، فيلتفت لعلّه يصادف تاجراً هندياً أو عربياً أو إيطالياً أو أجنبياً ما يزال موجوداً في خان الوزير أو الشونة، لكنه يرى أطيافاً تعبر لأشخاص استشهدوا في الحرب الظلامية، أو نزحوا، أو رحلوا.

وضمن هذه الحالة، يقرّب العابر ذاكرته مثل مكبّرة على الوقت المعاصر، ويكمل سيره في أحد الأزقة لينعطف قريباً من الجامع الأموي الكبير وهو يستعيد حضوره ومئذنته الأثرية، ليجد نفسه داخل الأسواق القديمة وهي تسترد أنفاسها مع الوقت، ومنها سوق “الجلوم” الشعبي، وأزقته وبيوته وبضائعه المتنوعة، وجاداته المتفرعة التي تنتقل بك من مكان إلى مكان لتصل بك إلى قلعة حلب الشامخة، أو إلى باب أنطاكية لتكون قريباً من باب “الجنان”، أو إلى منطقة “العقبة” ودرجاتها الحجرية الأثرية التي إن استمريت في السير فيها، فستوصلك إلى سوق “العتمة” و”اللحم” و”السمك”، وبالتأكيد، إلى باب الجنان.

سور ودرج ورائحة الأجداد 

كأنك معي تصعد الدرج الحجري العريض من الجلوم متجهاً إلى العقبة التي ما يزال أغلب أهلها يعيشون فيها ببساطتهم وعفويتهم على الرغم من الخراب والدمار والأنقاض، وإذا ما التفتنا إلى اليمين رأينا درجات أخريات مزينات بأصص النباتات المختلفة، ومضينا لنشاهد، وبعد مسافة قصيرة، رجلاً وامرأة يجلسان على حافة حجرية، وتبدو أمامها إطلالة حلب بمشهد فني جمالي تظهر فيه الأسواق والمباني والبيوت والجوامع، وتشرق الأشعة بلطفها الحلبي، وبرودتها المتأرجحة بين أواخر الشتاء وبدايات الربيع.

سلّمت على الرجل والمرأة وهما يشربان قهوتهما، ويتأملان أكثر من نصف قرن من عمريهما، وأكثر من مشاهد بانورامية متداخلة الأصوات والأبطال والأحداث، فسلمت عليهما وتعارفنا، وبدأنا الحديث عن ذاك الدرج، لتخبرني السيدة لينا أم عبدو بأنها من تزيّنه بهذه النباتات، وتزيّن بيتها العربي أيضاً، بينما حكى لي السيد محمد أبو عبدو كيف أنه يقيم هنا منذ 45 عاماً، وسبق لأهله أن أقاموا في هذه المنطقة، وشرح لي مثل أي حلبي عن سر تسميتها بالعقبة كونها منيعة وحصينة، على حدّ تعبيره، وكيف أن بيوتها الأثرية متجذرة بعراقتها الموشحة برائحة الأجداد الممتدة لأكثر من 3400 سنة.

وأضاف: “قربنا الجامع الأثري “قيقان”، أو “قاقان” نسبة للكاهن أو الكاهنة التي كانت هنا لأن أحد أجزاء هذا الجامع كان معبداً، ويرجّح أن يكون قصر ملكي، في أعلى التل، قريب من هذا المعبد العتيق، لارتباط مكان العبادة بالقصور الملكية، وما تزال توجد طريق اسمها طريق الملك، كما أن ما يُسمّى بـ “براكات الأرمن” ما تزال موجودة بأنقاضها، وتذكّرنا بما فعله العثمانيون بالشعب الأرمني الذي أحبّ حلب وسورية ووجدها وطناً، ومع مرور الوقت انتقل الأرمن إلى أحياء أخرى منها حي “الجديدة”.

واسترسل: “لقد تهدم الجامع مع ما تهدم بزلزال حلب الكبير وأعيد بناؤه، وأيضاً، قريباً من هنا، مسجد”الشعيبية” وكان اسمه “الأتراس”، وذلك قبل حوالي 14 قرناً، لأن جنود الفتح في العصر الإسلامي وصلوا إلى هنا من باب أنطاكية، وحرّروا حلب من الحكم الروماني البيزنطي، ووضعوا أتراس سيوفهم هنا، وفي مكانها بني هذا المسجد، وتتضمن العقبة، بالإضافة إلى جوامع أخرى، حمّامَ “البزدار”، وحمّام “الخواجة”، وداراً لأبناء السبيل، وخان كامل والزاوية الكمالية، وأربعة أبراج من العصر الأيوبي.

وتابع أبو عبدو: “في حي العقبة هناك مساكن تحت الأرض أيضاً، ومن المحتمل أن تكون هذه المحلة متعدّدة المباني والطبقات، وتحتوي العديد من الآثار والتيجان الحجرية والبازلتية، لكن مكوّنها الأساس التربة الكلسية، وكنّا أول من عاد بعد خروج المسلّحين الإرهابيين، ولم نخرج أثناء الزلزال”.

أين الاهتمام بأجمل آثار العالم؟ 

وكانت أن عادت أم عبدو مع فناجين القهوة التي وضعناها على حافة السور المرتفع، لتقول: نحتاج في العقبة إلى بعض الخدمات الضرورية، منها احتياجنا للسلامة العامة، لأن بعض أنقاض المباني تتساقط تلقائياً، ونحتاج إلى إفساح الطريق المؤدي إلى باب الجنان لتتمكّن السيارات من الدخول، لأننا نتعب من حمل حاجياتنا اليومية، ولأن المنطقة بحاجة إلى مزيد من العناية والاهتمام من قبل الجهات المعنية والمواطنين معاً.

وتابعت: “أجمل آثار العالم تقع في حلب وسورية، وكم زرت بلداناً مثل لبنان والأردن وتركيا وغيرها، لكني لم أجد أجمل من التاريخ الحضاري السوري، ومنها سوق المدينة القديمة الذي كان يعدّ أكبر مركز تسوق في العالم، أو بمصطلح معاصر أكبر “مول عالمي”.