لماذا تدمّر “إسرائيل” المستشفيات؟
عناية ناصر
تعدّ المستشفيات الأهداف الاستراتيجية الرئيسية للحملة العسكرية الإسرائيلية الوحشية في غزة، ومستشفى ناصر في رفح هو المستشفى الرئيسي الوحيد الذي لا يزال قائماً إلى الآن، إلى جانب عدد قليل من المستشفيات الصغيرة، حيث تم تدمير الباقي، بالإضافة إلى استهداف العديد من المرضى والطاقم الطبي، كما تم ارتكاب العديد من المجازر في تلك المستشفيات، وتُرك العاجزون ليموتوا، مثل الأطفال في الحاضنات، بينما تم أسر الأطباء والموظفين الآخرين لفترة زمنية غير معروفة. وحتى مستشفى ناصر لم يعُد يعمل بشكل كامل، بعد أن استولت عليه سلطات الاحتلال، وقامت بطرد جميع مرضاه والطاقم الطبي فيه، ولم يعُد المستشفى موجوداً إلا كهيكل، ولن يكون أوّل مستشفى يُدمّر ويتحوّل إلى كومة أخرى من الركام.
إن هذه الهجمات ليست عشوائية، كذلك تلك الهجمات التي تستهدف المخابز والمدارس والبنية التحتية، بما في ذلك المياه والصرف الصحي والكهرباء. وعلى الرغم من أن أكثر من نصف المباني في غزة أصبح الآن تحت الأنقاض أو غير صالح للاستخدام، إلا أن النسبة التي لحقت بالمستشفيات كانت أعلى بكثير.
يدّعي رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو أن هدفه هو القضاء على المقاومة الفلسطينية، لكنه في الواقع يقوم بتدمير كل شيء ماعدا المقاومة الفلسطينية. وهو يعلم تمام المعرفة أن المقاومة الفلسطينية لا تستخدم المستشفيات، ولا أيّاً من الأماكن الأخرى التي دمّرها الكيان الإسرائيلي، المسلّح بذخائر أمريكية لا تنضب. إن عشرة آلاف طن من القنابل التي ألقيت على غزة حتى الآن لم تكن تستهدف عناصر المقاومة الفلسطينية أو الأنفاق، حيث تتجنّب “إسرائيل” وقوع خسائر بشرية وفق زعمها، وهي تعلم أن قتال عناصر المقاومة الفلسطينية الموجودين في الأنفاق يؤدّي إلى خسائر بشرية من شأنها أن تلحق الضرر بشعبية نتنياهو. ولهذا السبب كان هدفها هو سكان غزة بأكملهم، فالقتل الجماعي للمدنيين الفلسطينيين، أكثر من ثلثيهم من النساء والأطفال، يجعل الأمر يبدو كأنه يحقق شيئاً ما. وهذا يساعد على تفسير قيام سلطات الاحتلال الإسرائيلية باستهداف المستشفيات، فإذا لم يكن هناك مكان لعلاج الجرحى والمرضى، فإن المزيد من الفلسطينيين سيموتون. وإذا كان هدف “إسرائيل” الحقيقي هو الشعب الفلسطيني بأكمله، فهذه طريقة فعّالة للقيام بذلك.
إن تدمير المستشفيات له تأثير مضاعف على عدد الوفيات.علاوة على ذلك، فإن المستشفيات هي التي تقوم بشكل أساسي بتجميع إحصائيات القتلى والجرحى الفلسطينيين لوزارة الصحة في غزة. وإذا لم تكن هناك مستشفيات، فسوف يموت المزيد من الناس دون الكشف عن هويتهم، ما يقلل من الأدلّة على وقوع الإبادة الجماعية. إن التأثير المضاعف للمستشفيات على عدد القتلى ينطبق أيضاً على المياه والصرف الصحي والمأوى والوقود وبالطبع الغذاء، إذ تؤدّي إزالة هذه المرافق والشحّ في المؤن إلى حدوث وفيات لا تميل إلى إدراجها ضمن قتلى الحرب.
إذا كان هدف نتنياهو هو تقليص عدد سكان غزة ــ أو القضاء عليهم بالكامل ــ فإن هذه هي الطرق الأكثر فعالية لتحقيق هذه الغاية. وهو من المؤكد لن يتردّد في استخدام غاز زيكلون-بي، ولكن هناك حدود لما قد يكون نتنياهو على استعداد لاستخدامه. إن هذه ليست تكهّنات، حيث أعلن نتنياهو ومعظم حكومته عن نيّاتهم علناً. وقد استخدم محامو جنوب إفريقيا الاقتباسات ومقاطع الفيديو المتعلقة بغرض الإبادة الجماعية للحصول على أمر قضائي من محكمة العدل الدولية. لقد بدأ نتنياهو ينفد من الخيارات وخاصة مع تقديم المقاومة الفلسطينية اقتراحها الخاص بوقف إطلاق النار، الذي كما كان متوقعاً غير مقبول بالنسبة لـ”إسرائيل”، وذلك لأنه فشل في دفع خطط “إسرائيل” الرامية إلى التوسّع الإقليمي أو التطهير العرقي، أو كليهما.
إن ” إسرائيل” تخسر حربها العسكرية الوحشية في غزة، وذلك بفضل استراتيجية المقاومة الفلسطينية المتمثلة في: جعل نفسها منيعة أمام القصف الجوي، والقدرة على تصنيع أسلحتها محلياً، والمصمّمة خصيصاً للأنظمة الإسرائيلية، وكذلك تدريب لا تشوبه شائبة للمقاتلين القادرين على القتال والعمل في وحدات صغيرة. و”إسرائيل” ليست مستعدّة لتحمّل خسائر كبيرة بين سكانها، ويبدو أن مرتزقتها الذين يتراوح عددهم بين 5000 إلى 6000 ليسوا مستعدّين للقيام بمهام انتحارية.
وهذا يؤدّي مرة أخرى إلى لجوئها إلى الإبادة الجماعية باعتبارها الاستراتيجية الوحيدة. ولهذا السبب يخطط نتنياهو لتدمير مدينة رفح، وتجميع معظم السكان فيها، ما يؤدّي إلى تضخم أعدادها بنحو 400٪، ومعظمهم في الخيام أو تحت القماش المشمّع الذي يوفّر حماية واهية من المطر والبرد. من المحتمل أن يؤدّي أي هجوم إسرائيلي إلى سقوط عدد أكبر من الضحايا يومياً مقارنة بالوقت الحالي، وهو الأمر الذي يستطيع نتنياهو أن يشير إليه بكل فخر بين أتباعه المتضائلين. لكن الولايات المتحدة التي تتغنى بشعارات الإنسانية لا يبدو أنها تتغاضى عن مثل هذه التصرّفات، لذا فقد طلب رئيسها “الإنساني” من نظيره “الإسرائيلي” تقديم خطة لإجلاء المدنيين!. وافق نتنياهو على ذلك، وعندما سُئل عن المكان الذي يمكنهم الذهاب إليه، أشار إلى مساحاتٍ تم قصفها حديثاً فيما كان يُعرف بمدينة خان يونس المجاورة. الآن يمكن لصديقه جو المؤيّد للإبادة الجماعية أن يرتاح بسهولة. وبالنسبة لمحكمة العدل الدولية؟ لا توجد أمام “إسرائيل” مشكلة، إذ لا يزال أمامها الوقت لتقديم تقريرها المرحلي إلى المحكمة بشأن إنهاء أعمال “الإبادة الجماعية” التي ترتكبها في غزة.
وبالمحصّلة يتماهى بايدن مع نتنياهو في جميع الجرائم المرتكبة، ويشعر فعلياً أنهما باتا في مركب واحد، وبالتالي فإن إدانة نتنياهو ستقود بالضرورة إلى إدانته، وهذا ما يجعله متمسّكاً حتى النهاية بالفيتو الأمريكي على وقف إطلاق النار.