ضباب الحرب وحركة التغيير
د. خلف المفتاح
في التجربة التاريخية وقراءة الأحداث، ولاسيما الحروب ونهاياتها، من الصعب الجزم بتصوّر أوليّ للنتائج، بسبب ما أطلق عليه ضباب الحروب وعدم الوقوع في خداع النتائج الأولى، وعلى هذا يقول هتلر: عندما تقوم أو تشنّ حرب لا يمكن أن تتنبّأ أو ترى ما سيحصل، فكأنك فتحت باباً ودخلت في غرفة مظلمة لا تعرف مخارجها ونوافذها، فلا أحد يستطيع أن يعرف بالضبط مآلات ما يحصل، والدليل على ذلك أنه عندما وقعت الحرب العالمية الثانية لم يتوقّع أحد أنها ستستمر خمس سنوات وسيُقتل خلالها سبعون مليون ضحية وستخسرها ألمانيا، علماً أن بعض المؤرخين يرون أنه ليس هناك حرب أولى وثانية بل حرب واحدة كبرى أو عظمى وعلى مرحلتين، واستمرّت 31 عاماً، وأهم نتائجها سقوط الإمبراطوريات العثمانية والهنغارية والبريطانية والروسية والألمانية، وصعود أخرى، فلم يكن أحد يتوقّع حصول ما حدث، فكل شيء ممكن، وكل الخيارات مفتوحة، وهذا ينطبق على ما يجري اليوم في أوكرانيا أو غزة، فكل النتائج الأولية يمكن توقّعها ولكن لا يمكن توقع شكل النهايات وسياقات الأحداث وفي إطار قراءة ما يجري وسبل التحليل يمكننا الحديث عن ثلاث طبقات للتفكير أولها التفكير الاستراتيجي ويتلخّص في قراءة ما وقع وما هي قيمته ودوره في سياق تاريخي تراكمي، والطبقة الثانية هي التفكير السياسي أي المواقف السياسية اللحظية وغالباً ما تكون انفعالاتٍ أو ردود فعل سطحية دون وعي سياسي أو استراتيجي، ولا يفسّر ما يحدث أعمالاً في مخبر التحليل، والطبقة الثالثة من التفكير هي التفكير المبنيّ على الأمنيات وإسقاطها على الواقع أي القراءة الرغبوية.
في التفكير الاستراتيجي يجب أن يعلم الجميع ومن تجربة تاريخية أن الغرب مجرم ويقود العالم دائماً إلى الأزمات، وهو لا يعرف حدّاً للانتصار، فيستمرّ في سحق الخصم ويدمّر ويقتلع ويهين العدو، وفي الحرب العالمية الأولى ألمانيا أهينت وأذلّت في اتفاقية فرساي، علماً أن الرئيس الأميركي ولسون قد حذر من إهانة الألمان لأن ذلك سيدفعهم للانتقام، لكن المدرسة الغربية تقول: “إيّاك إيّاك أن تترك عدوّك فافتك به”، دون أن يأخذوا في الاعتبار أن الإذلال سيؤدّي للانتقام.
وفي سياق القراءة التاريخية للأحداث وتطوّر القوى العالمية والبحث في آليات التغيير في المجتمعات وسيرورتها وصيرورتها، يمكننا العودة إلى منتصف القرن الثالث عشر الميلادي كنقطة تأسيس لإرهاصات أولى لعصر النهضة الأوروبية، فقد حصل ما سمّي الموت الأسود سنة 1340 وتمثل في مرض الطاعون المحمول في السفن التجارية القادمة من الهند والصين إلى أوروبا، وهو الذي قضى على ثلث سكان أوروبا وأدّى إلى تراجع وضعها الاقتصادي والثقافي، ولم تستعِد عافيتها إلا بعد ستين سنة، وخلال ذلك قويت الإمبراطورية العثمانية واستولى العثمانيون على القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية سنة 1453، ما أدّى إلى هجرة علمائها ومثقفيها إلى أوروبا الغربية، حيث حملوا معهم كتب الفلسفة اليونانية ومنها جغرافية كوبرنيكوس الذي يقول بمركزية الأرض وتوجّهوا إلى روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية الغربية، وحينها كانت لغتها هي اللاتينية، بينما لغة بيزنطة الشرقية اليونانية، فاختلطت الثقافة اليونانية مع اللاتينية، وفي الوقت نفسه سقطت غرناطة والأندلس فنقلت الكتابات العربية إلى مناطق جنوب فرنسا، فحدث تلاقح وجدل بين الفلسفة اليونانية واللاتينية والعربية ساهم بعصر النهضة الأوروبية، وكان قد سبق ذلك اختراع المطبعة علي يد غوتنبرغ الألماني 1440، فانتشرت الكتب وكان أول ما طُبع من كتب هو الإنجيل المنسوخ باللغة اللاتينية لأنه كان قبل ذلك منسوخاً باللغتين اليونانية في القسطنطينية واللاتينية في روما، وكان يُمنع تداوله ويُحصر اقتناؤه في الكنائس عند الرهبان ويُعاقب بالحرق كل من يحوزه خارج الكنيسة، فكان الفكر الكهنوتي هو المسيطر والعاصمة الثقافية والتجارية تحديداً فلورنسا، وهناك حصلت بدايات النهضة الأوروبية، وفي البندقية نشأت البنوك ورأس المال، وكانت المنافسة بين هذه المدن التي هي إمارات مستقلة، فحالة التشرذم وعدم وجود دولة مركزية سمحت بالحرية التجارية وتبادل السلع، وكانت صناعة الأقمشة مزدهرة بشكل كبير ولكنها تحتاج إلى مادة صباغية هي الألوم (الشب) ولم تكن متوفرة إلا في تركيا الدولة العثمانية آنذاك، فكان العثمانيون يربطون بيعها بالحصول على الأسلحة، ولكن حصل أنه في سنة 1460 اكتشف الرومان أي الإيطاليون سبع جبال من الألوم فأرسلوا للبابا يخبرونه بذلك وبنهاية هيمنة الترك على إيطاليا، واعتبر البابا ذلك انتصاراً كبيراً على الدولة العثمانية المسلمة، فانعكس ذلك استقلالاً اقتصادياً وسياسياً لروما وأصبحت قوة تفاوضية مع الخصم.
في عام 1492 سقطت الأندلس وخرج البحار كريستوفر كولومبس إلى الهند والصين، واتجه غرباً وإذا به ينزل في الكاريبي ويكتشف ثقافة جديدة وعالماً جديداً ومواد غذائية وخضاراً وفواكه لا يعرفها، ومنها البندورة والبطاطا وبعض الحيوانات والطيور، وعاد يحمل هذه الأشياء والاكتشافات معه، فذُهل الإسبان والبرتغاليون بذلك، وكذلك البابا ويُدعى بورجان الذي قدّم له كولومبوس السيكار عام 1472 حيث أدمن عليه وتوفي بسببه، وهناك مسلسل يوثق الحالة، ففي ذلك الحين شكّل الحدث فتحاً لأوروبا ونموّاً اقتصادياً لم تشهده من قبل، حيث الفضة والذهب القادم من القارة المكتشفة، وأصبحت السفن تجوب البحار نحو تلك القارة الجديدة وتعود بالذهب، فارتفع مخزون أووربا منه، وكان هو والفضة العملة المستعملة، ما جعل قيمة العملة العثمانية ودورها يتراجعان اقتصادياً، حيث لم تعُد الحائز الأكبر لها، فازدادت كمية عرضها في الأسواق، ما أدّى إلى انخفاض قيمتها السوقية، وهذا أدّى بدوره إلى تراخي الهيمنة العثمانية على العالم بحكم انخفاض قيمة الذهب، إضافة إلى تراجع احتكارها لطرق التجارة العالمية طريق الحرير باكتشاف رأس الرجاء الصالح، فلم تعُد التجارة العالمية تمرّ بالضرورة في مياه أو أراضي الدولة العثمانية، ومع أن الدولة العثمانية استمرّت قوية بعد ذلك بخمسين سنة بحكم فائض القوة العسكرية والاقتصادية، إلا أن تيار الضعف الاقتصادي قد بدأ مع بداية القرن السادس عشر واستمرّ حتى نهايته أي 1600 مع صعود أوروبا اقتصادياً بعد اكتشاف العالم الجديد، حيث قويت أوروبا اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً، فبدأ الأوروبيون كشعوب بحكم الرفاهية يفكّرون خارج نطاق ظروف عيشهم، حيث أصبح النقاش يتركّز ويتناول مسلّماتٍ تربّوا عليها طوال مئات السنين، ومنها العلاقة بالدين والكنيسة، فجاء مارتن لوثر ليرفع الراية للتجديد في المسيحية الكاثوليكية، وكانت الأرضية مهيّأة لذلك، أي البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية، حيث حل التاجر محل الإقطاعي الذي كان منسجماً مع الكنيسة، بينما التجارة فيها أطراف وأخذ وعطاء على العكس من الإقطاع الذي جوهره هيمنة على الناس وتابع ومتبوع، غير أن التجارة بحاجة إلى دولة وقوانين وعقود وسلطة وقضاء، فعلى التوازي مع التجارة ازدهرت مظاهر الحياة الفنية والثقافية والمعيشية للناس، وانتعش مفهوم الحرية الفردية، ولاحظ هنا الأوروبيون أن كل مظاهر الحياة تتقدّم إلا المفهوم الديني، فكل شيء يتحرّك إلا مقام البابا ودور الكنيسة، وظهرت صكوك الغفران وحاجة البابا للمال لجهة بناء كنيسة سان بطرس، وصكوك الغفران تعني وتتضمّن أن يحصل الشخص على صك أو كتاب من الكنيسة والبابا مقابل مبلغ من المال، ووفقه تمحى الذنوب مع الاستغفار والتوبة، وطوّرت الصكوك لتتجاوز الأحياء وتشمل ما اقترفه الأموات من ذنوب، والأكثر من ذلك شراء صكوك ذنوب مستقبلية، وفي مناخاتٍ كهذه جاء مارتن لوثر من ألمانيا للحج في الفاتيكان، فلاحظ مظاهر البذخ هناك، وعاد إلى ألمانيا واعترض على أشياء كثيرة تتضمّن حوالي 95 ممارسة في الكنيسة، ومنها صكوك الغفران، حيث قال: إن الله هو الذي يغفر وليس الكنيسة ودفع المال، وإنه لا يوجد في النص الديني المسيحي ذكر للبابا، وذهب وعلّق هذه الاعتراضات على باب كنيسته، حيث كان راهباً، فقام الناس بطباعتها وتوزيعها على العامة، فاتتشرت أفكار مارتن لوثر بسرعة في كل أوروبا، وعلى خلفية طروحه وهرطقته ألقي القبض عليه سنة 1522 وتمّت محاكمته بحضور الإمبراطور وممثل الكنيسة، فقرّروا حرماناً كنسيّاً له، حيث سُئل هل ما زلت معتقداً بما ورد في كتبك الستة، فأجاب بنعم، فتم حرق كتبه، وقالوا بإعدامه، ولكن الأمير فريدرك إمبراطور ألمانيا لم يقبل ذلك، فهرّبه إلى قلعة في إحدى المناطق، فتفرّغ لترجمة الإنجيل لأول مرة إلى غير اللاتينية، أي إلى لغته الألمانية فتحوّلت اللوثرية إلى أشبه ما يكون بثورة انتشرت في ألمانيا وأوروبا الكاثوليكية، وترافق ذلك مع تحوّل أوروبا من الإقطاعية إلى البورجوازية، وأصبح التفكير حراً بالحديث عن قيم جديدة قادها رجال فكر وفلسفة، فلا وصاية على العقل، فالله يريدنا أحراراً وليس عبيداً وفق لوثر، والمهم هنا في إطار قراءة عملية الإصلاح والتغيير أن الدين لم يكن هو الرافعة لذلك، ولكنه جاء في سياق تطوّر عام في المجتمع وتحوّل في بنيته الاقتصادية والثقافية، ثم اكتمل ذلك حين جاء كوبرنيكوس عام 1537 ليقول أخطر من ذلك، وهو أن الشمس هي مركز العالم، ونهاية الأرض ليست بحر الظلمات أي الأطلسي، وإنما امتداد له بما يخالف تعاليم الكنيسة، وقام بإهداء كتابه هذا للبابا في تحدٍّ له.
والآن وبالقياس إلى ما سبق وفيما يخص العالم الإسلامي في إطار الحديث عن نهضة وتطوّر، السؤال هو هل العامل الديني ونقده هو الذي يدفع نحو التغيير أم أن التغيير والتطوّر عملية مركبة تراكمية تحتاج إلى الإعداد والتمهيد على مستويات اقتصادية وفكرية واجتماعية ودينية، بمعنى أنه لابدّ من قطع مراحل لتنضج الأفكار وتتوفر البيئة الحاضنة والمناسبة للتغيير، فاجتراح التغيير في عالمنا العربي والإسلامي يجب أن يأخذ بالاعتبار خمسة أمور أوّلها أن التغيير الذي حصل في أوروبا قبل خمسة قرون يختلف عما هو حاصل الآن، فالتغيير الذي حصل آنداك كان تغييراً هادئاً وبطيئاً، أما التغيير في الزمن والعصر الحالي فيتسم بالسرعة والديناميكية العالية الوتيرة وبشكل كبير، والأمر الآخر أن النخب والنبلاء في تلك العصور هم مَن كانوا يقومون ويقودون العملية تلك، أما في الوقت الحاضر فالجماهير الشعبية هي من يقوم بتلك العملية التاريخية، ويستثنى من ذلك الثورة الفرنسية، علماً أن من خطّط لها هم النخب، أما العنصر الثالث فهو متعلق ومرتبط بالتكنولوجيا التي أصبحت في العصر الحالي داخلة في يوميات الناس وحياتهم بحكم عصر الاتصالات والاختراعات الجديدة والذكاء الاصطناعي، أما العنصر الرابع فهو العولمة الاقتصادية حيث زالت الحدود بين الدول إلى حدّ كبير، فالشركات العابرة للحدود والقوميات أصبحت حالة راسخة والسلع والخدمات تنساب بشكل كبير بين الدول وتتأثر اقتصادات الدول بما يحدث أو يحصل في أي مكان من العالم، فنجد أسعار البترول والمنتجات تتأثر بأيّ حدث عالمي، والمثال على ذلك جائحة كورونا، وأما العنصر الخامس فيتعلق بمستوى الحياة وتوقعاتهم، فالحياة قبل عدة عقود كانت تتميّز بالبساطة ولم تكن الحياة المادية متغلغلة في يوميات الناس وثقافتهم، فالنمط الاستهلاكي صار هائلاً وطاغياً عند البشر بسبب كثرة السلع وتنافسها وتسليع كل مظاهر الحياة والبحث عن المتعة وحبّ الاستهلاك، فأصبح اقتناء كل ما هو جديد مؤشراً على الانتماء إلى العالم الحديث ومواكبته، وصار العالم يعيش ما يمكن تسميته حضارة الأشياء، ولهذه العناصر الخمسة تأثير حاسم في الزمن الحالي والمستقبل.
من هنا يصبح امتلاك منظومة قيمية وأخلاقية خاصة بشعوبنا ومنفتحة على الآخر مسألة على درجة من الأهمية كي تتواءم فيها القيم ومنظومتها مع التغيير المأمول الذي قد يحتاج إلى سنين عديدة، وربما تعرّض ويتعرّض لنكسات وعثرات عديدة، ولكنه بالتأكيد سيصل إلى أهدافه لأن التاريخ دائماً حركة إلى الأمام مهما اعتراه من معترضات ومعوقات بحكم عوامل بعضها داخلي والآخر خارجي، آخذاً في الاعتبار موازين القوى الدولية التي أشرنا إليها سابقاً سواء أكانت مع أو ضد حركة التغيير تلك، وهذه حقيقة ثابتة وأكيدة.