ما بين السياسة والثقافة حوار المثقّفين و الأكاديميين و الكتّاب
د.عبد اللطيف عمران
يغدو البحث في عمق ثقافتنا مسألة مهمة وضرورية قبل الحديث عن أي تغيير جدّي في سلوكياتنا التنظيمية وحتى السياسية الراهنة. فثقافتنا التقليدية الموروثة تطفح بالنقاط الإيجابية كالصدق والأمانة والشرف والالتزام والاحترام والانتماء للوطن والاعتزاز بالهوية القومية، ولكنها مُشبعة أيضاً بثقافات فرعية سلبية غالباً ما توافدت مع دخول العناصر والثقافات الدخيلة، على امتداد مراحل طويلة.
لذلك يغدو الحوار مع المثقفين ذا طعم آخر في زمن ننتقل فيه من وطأة (الغزو الثقافي) في القرن الماضي إلى معضلة (الهيمنة الثقافية والإعلامية) في هذا القرن، وبأدوات ووسائل واستراتيجيات تجدد مبتدعاتها وتتطور بسرعة.
فقد كان البعث الثقافي، بمعناه الواسع والشامل، حاضراً في أي مشروع تحرري وتقدمي عربي طوال عقود طويلة، وكانت الدعوة إلى رفض الخرافات، والتخلّص من الأفكار المسبقة، والابتعاد عن التعصّب والتطرّف، والتسلّح بالعقلانية والموضوعية، والأهم الاعتراف بالتفكير الجماعي والتوافق المشترك والتلاحم والتضامن في مواجهة الاستهدافات الخارجية.
لا يمكن إغفال الجانب الثقافي في أي عملية تتسم بالثبات والاستمرارية، فالبعد الثقافي هو الذي يوفر عملية التأصيل الضرورية لأي عمل تغييري يطمح إلى أن يكون تاريخياً، كما أن أي تغيير يهمل قيمة البعث الثقافي سرعان ما سيسقط في المغامرة والسطحية.
وما نشهده اليوم من حوار يطلقه الرفيق الأمين العام للحزب الدكتور بشار الأسد، داخل الحزب، وعلى صعيد التفكير والممارسة الحزبية، هو خطوة أولى في مسار التغيير الذي سيطال منظومة المفاهيم والعلاقات الخاطئة والتي بات التخلّص منها هو الأساس الذي لا غنى عنه للتحرك المستقبلي القادم والمأمول.
في صباح الخميس 22 شباط 2024 التقى الرفيق الأسد مجموعة من المثقفيين والأكاديميين والكتّاب البعثيين في جلسة حوار تجاوزت ثلاث ساعات، كان السبب المباشر فيها موضوع الانتخابات الحزبية الجارية، إلا أن الحوار كان أوسع من ذلك بكثير ليس لأن موضوع الانتخابات يسير ومحصور باتجاه محدد، بل لأن الموضوع نفسه ينطوي على عدّة اعتبارات حزبية ومؤسساتية، وطنية وديمقراطية تهدف بمجملها إلى بناء الذات والمجتمع والدولة بناءً قادراً على تجاوز الآثار السلبية والهدّامة للحرب في سورية والمنطقة وللمؤامرة عليهما.
هذا الهدف ليس تحقيقه قريب المنال ونحن نرى ما نرى، ونعيش مانعيش من استهداف لا يُنكر، ومن وحشية التحالف الصهيو أطلسي. ومع أن حوار الساعات الثلاث ونيّف كان مع مثقّفين وليس سياسيين فلا بد أن يكون سؤال الوجود والمصير حاضراً، وكان كذلك ببعده الثقافي الذي نتخيّر التركيز عليه كواحد من مجمل الأبعاد العديدة المهمة انطلاقاً من التالي:
إن الرؤية الموضوعية والجدّية لا تفصل بين ما هو ثقافي وسياسي في منطقة وشعب كانا ومازالا “هدفاً”. ولذلك تغدو الرؤية السياسية البنّاءة والمجدية هي التي تستند على عمق ثقافي على نحو ماعرفناه في المشروع القومي العربي منذ أكثر من قرن من الزمن، والذي وإن كان يتهاوى اليوم، فإنه لن يموت وستنهض به أجيال قادمة، قد لانعرف متى. وكذلك الأمر في القضية الفلسطينية المركزية ومع الأراضي العربية المحتلة، وهذه قضايا إذا تركناها محصورة في المجال السياسي فقد تضعف، وكذلك الأمر في المقاومة فهي ليست بُعداً ميدانياً أو سياسياً أو محوراً فحسب، بل هي قضية ثقافة ونهج، فالثقافة هي مصنع وعي السياسي ومصدر نجاحه، وهي ميدان التحولات الاجتماعية المضبوطة والناجحة.
والمثقّف ليس موظّفاً، ولا إيديولوجياً صلباً، لأن من مهامه صياغة وصناعة الوعي الجمعي وحماية المجتمع والوطن، ومنهجه المراجعة النقدية للرؤية الوطنية اللازمة للتغيير والبناء بالمبدئية من جهة، وبالديناميكية من جهة ثانية. فالثقافية في البعث ليست إيديولوجية صارمة وهي تقترب من مفهوم (المثقف العضوي) الذي طرحه غرامشي، مع الإشارة إلى أن نشأة البعث كان يتقدم فيها الثقافي على السياسي، إذ كان روّاده الأوائل كتّاباً ودعاةً وحملة مشروع نهضوي وطني وقومي منفتح على الثقافات وعلى (الآخر).
من هذا القبيل كان الحوار مع الرفيق الأمين العام يبحث في مسألة دور الحزب في مستقبل سورية على المستوى السياسي والوطني والاجتماعي، وفي التمايز الكبير بين الإيديولوجيا الحزبية وبين الممارسة السياسية، وفي التغيير الذي يريده البعثيون داخل منظومتهم في عالم اليوم والغد الذي تُختزل فيه مسافة الزمن بين كل جيل وجيل إلى أقل من عدد أصابع اليد الواحدة، وبخاصة الجيل الطالع اليوم إلى الحياة وقد ترعرع في مخاضات الحرب القاسية على واقعه ومستقبله، ومنهم من وُلد في مضطربها، ما يجعلنا نجتهد في ما يتطلبه واقعه من توعية خاصة، متميزة ومغايرة، وأن تتضافر جهودنا أيضاً للنهوض بالرؤية الشاملة المطلوبة للبناء والتغيير، وإنجازها عبر الحوار العميق الذي عليه أن ينتج عناوين ترسم تلك الرؤية ولا سيما ما يتصل منها بالفكر والهوية.
هذا متخيّر مما أوضحه الرفيق الأسد، وهو بعضٌ من حديث سيادته ذاك الصباح.