الذكاء الاصطناعي وموت المثقف
حمص- آصف إبراهيم
عندما نشر الناقد الفرنسي “رولان بارت” مقاله الشهير الموسوم “موت المؤلف” عام ١٩٦٨، كان يرمي إلى دراسة النص الأدبي بمعزل عن المؤلف، وبعيداً عن المؤثرات الخارجية المحيطة بهذا المؤلف كالبيئة والحالة الاجتماعية والثقافية، وغيرها، وإعطاء الأولوية لذات النص على حساب ذات المؤلف بهدف دراسته دراسة موضوعية تنطلق من معطياته الداخلية.
وعلى الرغم من أن ما أودّ الحديث عنه في هذا المقال لا يرتبط بهذا المصطلح من حيث الفكرة، لكنني أستطيع اقتباس العنوان ذاته لأتحدث عن موت المثقف في عصر بات الحديث فيه عن الذكاء الاصطناعي يأخذ منحى إلغائياً لكل أشكال الفعل الإنساني، بدءاً من الفعل الإبداعي الذي يتطلّب امتلاك المبدع ذخيرة ثقافية واسعة تمكنه من إنتاج نص أدبي استثنائي أو عالي المستوى، لكن مع التطور الكبير في وسائل وتقنيات البرمجيات سوف يحدّ تدريجياً من دور الإنسان، عند الاستسلام والاتكاء على تقنيات الذكاء الاصطناعي في نهل المعلومة بكل يسر وأقل عناء، حيث أصبحت تلك التكنولوجيا قادرة على إنتاج نصّ أو أصوات أو صور بناءً على طلب بسيط في غضون ثوانٍ، بعد أن كان سابقاً يتطلب من طالب العلم والمعرفة السفر إلى أماكن وبلدان بعيدة، طلباً للمعرفة والثقافة يمر خلال رحلته هذه بتجارب حياتية تكسبة مرجعيات ثقافية تحرّض لديه ملكة الإبداع والتجلي ولنا في مفكرين وأدباء كثر نموذجاً، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر طه حسين عميد الأدب العربي الكفيف الذي سافر الى باريس، طلباً للعلم ليعود منها محملاً بأفكار وتجارب حرّضته على كتابة مؤلفات قيمة، كذلك عباس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم الذي أتاحت له رحلته إلى فرنسا الاطِّلاع على الأدب العالَميّ بشكل عام، واليونانيّ، والفرنسيّ بشكل خاصّ، وبسبب تأثُّره بالأدب المسرحيّ وانجذابه إليه، أبدع أُولى مسرحيّاته “أهل الكهف” في عام 1933م، والتي عدّها النقّاد بدايةً ظهور المسرح الذهنيّ؛ ومن أين لأحد أن يكتب رواية كتلك السيرة الذاتية التي خطها المغربي محمد شكري بعنوان “الخبز الحافي” بلغة جذابة وسرد مشوق إذا لم يعارك الحياة ويجتهد في كسب المعرفة ومفردات اللغة، وغير هؤلاء المبدعين الكثير يصعب التطرق إليهم، لكننا اليوم مع ثورة الذكاء الاصطناعي سوف نفتقد متعة البحث والتنقيب بين دفات الكتب والمراجع والتعرف على حيوات متنوعة، بحثاً عن معلومة سوف لن تمحى من الذاكرة أمداً طويلاً لأننا بذلنا جهداً في الحصول عليها.
ثورة الذكاء الاصطناعي على الرغم من المحاذير التي أثيرت حول مخاطرها على الإنسان من الناحية الاقتصادية، حيث تؤدي إلى ارتفاع نسبة البطالة عندما يحلّ الإنسان الآلي في العمل مكان الإنسان ومخاطرها الأمنية لاحتمال خروجها عن السيطرة، لكن الخطر الأهم هو أنها بدأت تمهد لموت المثقف الذي كان سابقاً يخزن المعلومات التي يبذل جهداً مضنياً في الحصول عليها في ذاكرته، وتترك تأثيرها في إعادة تكوين ذاته وصقل شخصيته بدأ يعتمد على مخزون ثورة الذكاء يغرف منه ما يشاء عندما تطلب الحاجة من دون عناء، وهذا سيؤدي إلى موت المحرض الحياتي على الخلق والإبداع، وظهور أجيال عاجزة عن الخلق والإبداع.
التقدم التقني ترك أثراً كبيراً في شخصية الإنسان وحوّله إلى مجرد متلقٍ آني متكاسل.
ما يمكن لي أن أجزمه في هذا المقام هو أن التطور المتسارع في وسائل الاتصال وتكنولوجيا تخزين المعلومات والمعارف أثر تأثيراً غير خفيّ على ظهور النصوص الأدبية العظيمة والأبحاث الفكرية القيمة، كالتي تعرفنا عليها وأنتجت في عقود القرن المنصرم، أمثال ثلاثية “حكاية بحار” للروائي حنا مينا، أو خماسية “مدن الملح” للكاتب عبد الرحمن منيف، أو ثلاثية نجيب محفوظ “بين القصرين”، و”قصر الشوق”، و”السكرية”، وكتاب الشاعر أدونيس “الثابت والمتحول: بحث في الإبداع والاتباع عند العرب” الذي أحدث حين صدوره في 1973 ولا يزال يحدث سجالاً أدبياً وفكرياً كبيرين، وما سبق ذلك من روائع الأدب العالمي، من مؤلفات واكبت تجارب إنسانية مهمة وتركت أثرها العميق في حياتنا.
الإبداع يعود، في مجمله إلى تجربة حياة التي منها ننستنبط الأفكار ومخزوننا الثقافي، واعتمادنا الكلي في حياتنا على منتجات التقدم التقني يحدّ من تجارب الإنسان الحياتية ويضعف من محرضات الإنتاج الفكري المرتبط بإعادة صياغة وتكوين هموم الإنسان وتطلعاته وتسلط الضوء عليها، والرواية والمسرح والسينما وغيرها هي انعكاس لما تمور به حياتنا من تطلعات وأمنيات، فكيف لرجل آلي أن يشعر بها عندما نوكل إليه مساعدتنا على إبداع نص أدبي أو عمل فني نرجو منه أن يلقى صدى لدى المتلقي.
بالنتيجة… نحن قادمون نحو مستقبل ضحل في قيمه الفكرية والثقافية، ويلغي إنسانية الإنسان، ويجعل منه كائناً آلياً في تصرفاته ومشاعره وأحلامه وتطلعاته، كائن مادي يفتقر للرؤية الإبداعية والفكرية.