ثقافةصحيفة البعث

كيف تحتفظ بكينونتك في زمن تأليف الذكاء الإلكتروني؟

حلب- غالية خوجة

دخل العالم البشري في مدار آخر للذكاء الإلكتروني الصنعي أو الصناعي أو الاصطناعي، “Artifical Intelligence” ويرمز إليها بـ”AI”، وانتشرت لغة التكنولوجيا بخوارزمياتها المختلفة انتشاراً متوالداً وتوليدياً، وصارت تنوب عن الإنسان في أغلب المجالات، وانتقلت من طور الجنينية والولادة إلى طور التناسل والتحكّم حتى بمخترعها الإنسان، على الرغم من الفروقات الواضحة بين الذكاءين، وأهمها قدرة الذكاء البشري على التمتع بالعديد من الطاقات التي سيظل يفتقدها الذكاء الاصطناعي الناتج عن ذكاء مخلوق، مثل الحنين والعرفان والتعلّم الذاتي والتحليل العلمي والنقدي واتخاذ القرارات والتأقلم والتخيل والتواصل والذاكرة والاستذكار والحلم والعقل والأخلاق والإبداع.

قاومْ من أجلك

ومع تطوير الإنسان للذكاء الاصطناعي، نلاحظ كيف بدأت الثورة التكنولوجية الافتراضية بالانتقال من مدار مألوف إلى مدار غير مألوف، أكثر تعقيداً بالطبع، وصارت أعداد البرامج الإلكترونية لا تُحصى وهي تستولي على حياتنا الواقعية والافتراضية اليومية والعائلية والاجتماعية، وبدأت عملية تطوير هذه الوسائل والوسائط تطويراً متسارعاً ومستداماً، ودخلت مرحلة اعتماد الإنسان عليها في أغلب مجالات الحياة بمهامها الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، وصارت تمتهن التأليف أيضاً، أي أنها أصبحت تؤلف في كل المجالات الأدبية والعلمية والفنية التشكيلية والموسيقية والتعليمية والمعرفية والجغرافية والإعلامية.

وانطلقت كلمات الشعراء بأصواتها التحذيرية لتنبّه الإنسان إلى إنسانيته واعتماده على عقله وحواسه ومشاعره وكينونته وأخلاقياته وجمالياته المختلفة لكي لا تعاني مزيداً من الاستلاب الافتراضي، تلك التي لن تمتلكها أي تقنية ذكاء إلكترونية، ومنها صوت الشاعر اللبناني المعاصر ناجي نعمان: “قاومْ، لا تدع ما يسمى أجهزة ذكية أو ذكاء صناعياً يستغبيك، وقاوم لتبقى بشرياً طامحاً”.

وهذا يؤكد ضرورة تأمل الإنسان لأهدافه من هذه التكنولوجيا من دون استيلائها على وعيه وذكائه وعواطفه وحياته لكي لا تستعبده، ويظل إنساناً مدركاً لآثارها الإيجابية والسلبية، ويكون متفاعلاً وفاعلاً، لا منفعلاً، منتجاً لا مستهلكاً، ليظل طليقاً وخلاقاً ومبدعاً.

ما المعيارية الإنسانية على الانعكاسات التكنولوجية السالبة؟

لقد وصل الذكاء الافتراضي الإلكتروني، كما أفضّل أن أصطلح عليه، في زمننا المعاصر، إلى درجة التأليف المتشعب في مختلف المجالات، فبمجرد تخزين الجهات الإلكترونية المختصة للمعلومات في أي برنامج من البرامج التأليفية، صار بإمكانك أن تطلب من هذا البرنامج ما تريد أن تؤلفه كتابة إعلامية أو أدبية، فناً، فيلماً، بحثاً، نقداً، صوتاً، وكل ما يخطر على البال أو لا يخطر، وضمن هذا المجال يدخل “التزييف العميق” الذي بات يستطيع تحويل صوت وصورة شخص مقصود بعينه إلى فيلم مسجل وصوت مسجل، لدرجة أنك تستطيع أن تسمع وترى أياً من الفنانين الأموات مثل “أم كلثوم” تغني أغنية جديدة، أو أي من الفنانين الأحياء أغنية لم يسمعها هو نفسه، وصار بإمكان جدك المتوفى أو أي من أحبائنا الأموات أن يجيبك بالصوت والصورة عن كل ما تسأله عنه حتى ولو أنه لم يعاصر ما يتضمنه سؤالك!.

وبكل تأكيد، تطرح هذه التكنولوجيا تساؤلات مهمة حول المعيارية الأخلاقية والقانونية والمجتمعية والإنسانية، ولا بد من سنّ الشرائع الواقعية والافتراضية المناسبة لتجاوزاتها وسلبياتها وتأثيراتها اللاأخلاقية التي تطال الدول والشعوب والمجتمعات والأفراد.

منشئ المحتوى التقني

وفي الآونة الأخيرة، انتشرت تقنية منشئ المحتوى الإلكتروني ليكون منشئ إعلانات، ومحرراً إعلامياً مكتوباً، ومسموعاً، ومرئياً، ومحرراً للتسميات التوضيحية للصور، ومنشئ قصص، وقصائد، وكاتب أبحاث دراسية وجامعية ونقدية، ورساماً، ومصمماً، ومترجماً، ومحرر محتوى إبداعي في كل المجالات، أي أن الذكاء الصنعي أصبح محرر محتوى شاملاً متنوعاً، وله برامج متنوعة وأدوات إنشاء محتوى خاصة بكل برنامج، ومنها المحرر الإلكتروني أو المؤلف الافتراضي، أو كاتب الذكاء الاصطناعي، الذي يقدم المطلوب منه بمقابل مادي طبعاً.

ومن البرامج التحريرية الإلكترونية برامج الكتابة بأنواعها المختلفة، ومنها الدردشة التفاعلية المولدة للأفكار “بينك” والبرنامج وتسمى أدوات توليد الأفكار التي تقترح عليك المحاور والعناوين لتأليف كتاب مثلاً، وهناك أدوات تخطط لك لإنشاء كتاب، وأدوات توليد النصوص بأسماء مختلفة تابعة لمحركات بحث شهيرة، وأدوات إعادة الصياغة، وأدوات التدقيق، وأدوات تصميم أغلفة الكتب.

كتب ألفها الذكاء الإلكتروني

ولو أراد أحد ما تأليف كتاب ما، فما عليه سوى التعامل مع هذه البرامج ويتفاعل معها ويخبرها بما يريد، وكأنه “يدردرش” مع أي صديق ليجد أن الكتاب صار جاهزاً وما عليه سوى إضافة اسمه على كتاب حرره الكاتب الإلكتروني، وبعد ذلك، يعرضه للبيع، كما فعل العديد من الناس حول العالم، ومنهم بعض الكتّاب الذين تبادلوا الأفكار مع هذه البرامج الإلكترونية التحريرية، وحددوا المحاور الأساسية، وأملوا على البرنامج معلوماتهم وأسئلتهم واستفساراتهم ومطالبهم ليحصلوا على الناتج الافتراضي وهو الكتاب المحرر بطريقة الذكاء الاصطناعي القابل لأن يكون بصيغة ورقية مطبوعة، أو إلكترونية افتراضية، أو مسموعة ومرئية مع نغمة موسيقية مناسبة بصوت إلكتروني، أو صوت قابل للتعديل بصوت الكاتب فيما لو أراد ذلك.

ومن الكتب التي اعتمدت على هذه الطريقة لأشخاص ابتدؤوا تجربتهم الكتابية مع محركات البحث “الروبوت بوت” عن استكشاف الكون واستخدم فيه “جون ثيو” برنامج “تشات جي بي تي”، وهو البرنامج ذاته المستخدم في كتاب “أصداء الكون” لمؤلفه “داوسون هانت”، وكتاب “50 طريقة سينهي فيها الذكاء الاصطناعي العالم” لمؤلفه “روب نوت”، وكتاب “معنى الحياة والغرض والموت- ماجوجبيرنار”، وكتاب “عشاء الاكتئاب- جوليا جوي رافيل”، وكتاب “اليوم الذي كتب فيه الحاسوب- رواية” وهو مؤلف بوساطة مشروع “كيماجور” لتعليم الذكاء الاصطناعي كيفية كتابة القصص.

وهناك تجارب عديدة مع محرر الشعر الحاسوبي التي تمت بلغات أجنبية، منها الإنكليزية، لكننا لن نجد قصيدة مكتوبة باللغة العربية لأنها لغة متكاملة الروح والوجود، مع ملاحظة قابليتها لترجمة كل ما يكتب باللغات الأخرى حتى ولو من خلال الذكاء الاصطناعي.

وتجدر الإشارة إلى أن أغلب الذين يلجؤون إلى تقنية الذكاء الاصطناعي التحريرية ينتمون إلى من لديهم رغبة في الكتابة، ولم يمنحهم الله الموهبة، ومنهم بعض الذين يكتبون أيضاً، وتكمن المشكلة الأكبر، برأيي، في تلك الكتب المؤلَّفة ببرامج هذه التقنية والموجهة للأطفال واليافعين، والتي لا بد أن تكون محور دراسات ثقافية ونقدية وقانونية ضرورية لمحتواها وأسلوبها وما تغرسه في أعماق الأجيال.

إيجابية بصمة الإنسان الإبداعية

ولكن، ورغم ذلك، لا يمكن لهذه الكتابة التي يحررها منشئ المحتوى الإلكتروني أن تكون بصمة إبداعية خاصة بالكاتب الإنسان، لأسباب كثيرة، أهمها أن للكلمة روحاً متعالقة مع حواس معانيها النابضة من تجربة إنسانية خاصة، وأسلوباً كتابياً خاصاً، له قاموسه اللغوي، ومفرداته الخفية، وعوامله الجمالية المتفردة، وعناصره النسقية المميزة، ومنتوجها التأثيري تجاه المتلقي الذي لا يريد أن تصله الكلمات جامدة، أو أن لا تلامس ذاكرته ووجداناته وتفاعلاته ومخيلته وتحولاته الروحية المجردة والمحسوسة، ليتشارك معها التأليف أيضاً، وهذا ما لن يحققه كاتب المحتوى الإلكتروني بذكائه الاصطناعي، وستظل كتابته تعاني سلبيات، سواء أكانت كتباً مولّدة، أم نصوصاً مولَّدة، لأنها تعتمد على البيانات والمعلومات سواء أكانت دقيقة أم غير دقيقة، كما تعتمد على نماذج لغوية مطروقة ومعروفة تمّت تغذية الذكاء الاصطناعي بها، فلا تقدم الاكتشاف العميق للغة والذات الإنسانية ولا لكيفية التفكير والإحساس، ولا للوجود وما وراءه، ولا تضيف مفردات جديدة للحلم والمخيلة والوعي واللغة ذاتها والحياة والإنسان، ولا تقترح الأسئلة وتكون محرضة على المزيد من التفكّر والتأمل والبحث، إضافة إلى معاناة الذكاء الاصطناعي صعوبة في تفسير المعنى والفهم المناسب للبُعد العلائقي بين الكلمات كمدلولات والمعاني كدالاّت، مما يفقده الإحساس بوظائف اللغة المختلفة النحوية والنسقية والصياغية والتوصيلية والسيميائية والتأويلية والإشارية والتأثيرية والتخييلية والجمالية وفضائها المدلولي الظاهر والمضمر، ونصوصها المتحركة والثابتة، الحاضرة والغائبة، أي أنه باختصار، يفتقد البصمة الإنسانية الإبداعية.