رضوخ إجباري مغلّف بالرّضا
نجوى صليبه
جلست أفكّر بماذا أكتب في الذّكاء الاصطناعي وأثره على ثقافتنا وهويتنا وإنسانيتنا، فقد أحاط زملائي بجوانب الموضوع كلّها، ولمعت الفكرة من غياهب ذاكرة أعادتني إلى البرنامجين: التّلفزيوني “من الألف إلى الياء” الذي قدّمه سنوات طويلة الرّاحل موفق الخاني، والإذاعي “ظواهر مدهشة” الذي قدّمه أيضاً الأديب الدّكتور طالب عمران سنوات طويلة، وبينما كنت أهمّ بالكتابة استوقفني الصّوت القادم من برنامج إذاعي على أثير الإذاعة المحلية “شام اف ام”، صفنت قليلاً وقلت إنّه صوت مألوف ومميز، لكنّ الموضوع الذي يتحدّث فيه نقل تركيزي إلى ضفة أخرى، فقد كان يتحدّث عن العتابا وأصلها ونشأتها وخصوصيتها في كلّ محافظة سورية، وكيف أثّرت التّقنيات الحديثة ووسائل التّواصل الاجتماعي في تراجع “السّميع المرّ” للعتابا، وفور تقديمه أنموذجاً لها، قلت هذا هو أذينة العلي، وعندما سألته المذيعة عن سبب عدم وجود ما يوثّق لتاريخ العتابا الذي قدّمه فنّانون سوريون أمثال فؤاد غازي وغيره، قال العلي إنّ التّسجيلات القديمة إن وجدت فهي رديئة الدّقة وإنّ أعماله حتّى لم تعد موجودة والسّبب يعود إلى كونها كانت مسجلة على “كاسيت”، وحينها لم يكن أحد يعتقد بأنّ هذا الاختراع سيصبح من دون فائدة لاحقاً، وأتى بعده الـ”سي دي” وهكذا.. قلت لا يعقل هذا هذه هي المرّة الثّالثة التي سأستفيد فيها من البرامج الإذاعية والتّلفزيونية لكتابة مقالي هذا، وقلت إنّها فكرة من الألف إلى دهشة ومستقبل يصعب التّنبؤ به.
أذكر هنا أنّه في إحدى حلقات برنامج “من الألف إلى الياء” التي شاهدتها عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري، ذكر الخاني خبراً عن زمن آت يكون لكلّ إنسان فيه جهاز التّلفاز الخاصّ به يحمله في يده أينما ذهب، وأنا كلّما حملت جوّالي أقول: نعم هذا هو.
مرّت الأيّام والسّنوات، وحبستنا الأقمار الصّناعية في منازلنا، لدرجة أنّ بيوتاً سُرقت بينما كان أصحابها يشاهدون مسلسلاً مدبلجاً، وبعدها أتت الهواتف النّقالة ونقلتنا من سجن إلى أسوأ، بسبب وسائل التّواصل الاجتماعي، وهنا أتحدّث عن نفسي وأقول لقد كنت رافضةً كلّ الرّفض أن يكون عندي حساب فيها، لكنّي مع الوقت وجدت أنّ الأمر أصبح مفروضاً فرضاً بحكم المهنة والعمل، وهكذا أصبحنا تطبيقات جديدة، بل وأصبحنا متهمين بالتّخلّف إن لم نواكبها جميعاً.
ومع كلّ تطبيق جديد كنت أقول: أتمنى ألّا يكون هناك آخر جديد، لكن للأسف هيهات ذلك، فمطوّرو التّكنولوجيا يبهروننا بكلّ ثانية بجديد يلغي الذي قبله إن لم يقلل من استخدامه.
أتذكر الآن فيروس “كوفيد 19” أو “جائحة كورونا” التي فتكت بملايين الأرواح، وكنّا نظّن حينها أنّ أثرها صحيّ فقط، لكن مع الوقت أدركنا أنّ أثرها على أمور أخرى تضاهي أهمية الصّحة الجسدية، والمقصود إنسانيتنا التي أصبحت حبيسة إسمنت وهواتف نقالة كانت وسيلتنا الوحيدة للتّواصل مع سجناء مثلنا، ووسيلتنا الوحيدة للعمل والتّسلية، والآن إنسانيتنا أمام تحدّ جديد، نخسر معه وظائفنا وعقولنا وهويتنا وثقافاتنا، فكما هجنت النعجة “دوللي” في الماضي، وبرمجت الدمى لتكون زوجات مطيعات ومقدّمات برامج، ها نحن اليوم أمام ذكاء اصطناعي آخر يقدّم لنا ما نريد من صور ومقاطع مصورّة وروايات وقصائد ولوحات فور الطّلب.
المؤسف حقّاً في كلّ ذلك، هو أنّنا نبرّر كلّ شيء بقول: “ليس في اليد حيلة”، وأنّنا نسلّم للأمر تسليم المقتنع بافتقاره إلى الذّكاء، وأنّنا كعرب ما نزال متلقّين فقط، لا فاعلين، على الرّغم من معرفتنا بحجم المخاطر الماضية والحالية والمستقبلية وهولها.. نعم هو رضوخ مغلّف بالرّضا!.