الليبرالية الحديثة.. حروب الهيمنة الثقافية لإيديولوجية ما بعد الإنسان وما بعد الأديان
لا تكاد تخلو إطلالةٌ للسيد الرئيس بشار الأسد تحمل أبعاداً فكريةً أو إعلاميةً أو اجتماعيةً، إلّا وينوه سيادته إلى خطر “الليبرالية الحديثة“، فالرئيس الأسد ينطلق من ثلاثية (الأسرة، القيم، المعتقد) كضامنٍ (للمجتمع، والهوية، والوعي) الوطنيّ، إذاً تعدّ الليبرالية الحديثة من أخطر التحديات المعاصرة التي تواجه المجتمعات الوطنية، ومنها المجتمع السوريّ، وتحاول تفكيكها بنيوياً وقيمياً، وهيّ ليست مجرد تيارٍ ثقافيٍّ غربيٍّ يحاول تقويض أسس تماسكنا الاجتماعيّ، بل هيّ أيضاً مشروعٌ سياسيٌّ هادفٌ إلى ضمان هيمنة الغرب على النظام الدوليّ ومجتمعات وحداته الفاعلة.
ينطلق الرئيس الأسد في مقاربته الليبرالية الحديثة من مسؤوليةٍ وطنيةٍ باعتبارها جزءاً من الحرب على سورية، حربٌ من نمطٍ مغايٍر، حربٌ ثقافيةٌ، تستهدف بنى المجتمع والثقافة والتنوع، تعدّ مساراً موازياً للحرب العسكرية والاقتصادية على سورية، فحروب الثقافة هيّ صراع ثقافةٍ ضد أخرى للهيمنة عليها واحتوائها، نظرياً هيّ حروبٌ بلا دماء ونار، ولكنّها في لحظةٍ ضعفٍ ثقافيّ قد تعصف بالمجتمعات وتجعل منها بركة دماء، لذلك يقارب الرئيس الأسد مسألة التحصين المجتمعي والمناعة الثقافية باعتبارها أولوية إستراتيجية.
ومع دخول المجتمعات الإنسانية مرحلة ما بعد الإنسان فعلياً، وما سيتلوه حكماً من دخول تلك المجتمعات مرحلة ما بعد الإنسانية، كان لابد من تكثيف النقاشات حول مخاطر الليبرالية الحديثة على المجتمعات البشرية، فتلك الليبرالية الحديثة هيّ بوابة تلك المرحلة المجهولة (ما بعد الإنسانية) من الناحية القيمية والأخلاقية والعاطفية، فتدمير البنى القيمية ليس مجرد فلسفةٍ (فوضويةٍ عدميةٍ)، بل بدايةٌ لمرحلة ما بعد القيم الإنسانية، وما تحمله هذه الفكرة من مخاطر على الأمن الإنساني، وإذا كانت مقولة “نهاية التاريخ” لفوكوياما ذروة المد النيوليبرالي العالمي حينها، فموت العقل والفلسفة هي رأس الهرم الليبرالي الحديث الذي ستعقبه بنيةٌ إنسانيةٌ مختلفةٌ عما عاشه ويعيشه البشر الراهنون، وهنا ناقوس خطر لابدّ من قرعه باستمرار، ورغم ذلك الخطر ما زلنا نرى خلطاً في المفاهيم يضيع علينا تصويب البوصلة باتجاه مناهضة الليبرالية الحديثة، لذلك بدايةً علينا التمييز بين مصطلحين عن الليبرالية (Newliberalism- الجديدة)، و(-Neoliberalism الحديثة)، فالليبرالية الجديدة هي نوعٌ من الليبرالية الاجتماعية ذات ميولٍ اشتراكيةٍ تهتم بالعدالة الاجتماعية، وتهدف إلى التوفيق بين حقوق الفرد والجماعة، بينما الليبرالية الحديثة (Neoliberalism) هيّ لفظٌ يستخدم راهناً للإشارة إلى مذهبٍ رأسماليّ يؤيد اقتصاد عدم التدخل وعدم الاكتراث بالعدالة الاجتماعية، ويقوم على مبدأ المنافسة في العلاقات الإنسانية، وبالتالي فهو يعيد تعريف الناس باعتبارهم مستهلكين لا مواطنين.
نشأت الليبرالية في أوروبا في عصر التنوير وصولاً للثورة الصناعية (1750-1850) في صراع مع النظام الإقطاعي ومع هيمنة الكنيسة، وتمكّنت بعد انتصار البرجوازية، ونجاح ثوراتها من إقامة الدولة الأمة استناداً إلى قاعدة الحريات الفردية على المستوى الفلسفي، باعتبارها جزءاً من القانون الطبيعي والحرّيات الاقتصادية على المستوى الاقتصادي، وقد نجحت في إقامة نظامٍ برلمانيٍّ تمثيليّ، ولكن بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية ومرافقهما من إحباطٍ نفسيٍّ وسياسيٍّ في النظام الليبراليّ التي عبرت الحربين عن أزمته العميقة (بين الرأسمالية والليبرالية السياسية) بدأت تيارات ما بعد الحداثة تنتشر من الغرب إلى بقية دول الأرض، وهنا بدأت تيارات النيوليبرالية بالصعود في الغرب، ومعه تمت صياغة مصطلح الليبرالية الحديثة في اجتماع عقد في باريس العام 1938، وكان من بين الحاضرين رجلان جاءا لتعريف الأيديولوجية،هما لودفيغ فون ميزس وفريدريش هايك، وكانا ينظران إلى الديمقراطية الاجتماعية، التي تجسدت في سياسات فرانكلين روزفلت باعتبارها مظاهر للجماعية التي شبهها بالنازية والشيوعية، وفي كتابه (الطريق إلى العبودية 1944) زعم هايك أنّ التخطيط الحكومي، من خلال سحق الفردية، سيؤدي حتماً إلى السيطرة الشمولية، هذا الأمر لفت انتباه بعض الأثرياء، الذين رأوا في تلك الفلسفة فرصةً للهروب من الضرائب، وعندما أسس هايك في العام 1947 أول منظمةٍ لنشر عقيدة النيوليبرالية ــ جمعية مونت بيليرين ــ كانت مدعومة مالياً من الأوليغارشية المالية، وعلى الرغم من تمويلها السخي، ظلت النيوليبرالية على الهامش لثلاثة عقودٍ بعدها، فقد تم تطبيق الوصفات الاقتصادية لجون كينز (نظرية الديمقراطية الاجتماعية) على نطاقٍ واسع، في الولايات المتحدة ومعظم أوروبا الغربية وكانت الحكومات آنذاك تسعى إلى تحقيق نتائج اجتماعيةٍ لتقليل خسائر الحربين العالميتين، ولكن في السبعينيات، عندما بدأت السياسات الكينزية في الانهيار وضربت الأزمات الاقتصادية كلا جانبي المحيط الأطلسي، بدأت الأفكار النيوليبرالية في دخول التيار الرئيس للسياسات الغربية، لتمثل سياسات (تاتشر- ريغان) التطبيق السياسيّ والاقتصاديّ والقيميّ للنيو ليبرالية، وإذا كانت الليبرالية منتجاً حداثياً فالنيوليبرالية هيّ منتجٌ ما بعد حداثي، ما يقودنا إلى الاستنتاج أنّ أخلاق ما بعد الحداثة هيّ أخلاق النيوليبرالية والنظام القيمي المابعد حداثي هو نظام القيم النيوليبرالية، هذا وكانت فترة الثمانينيات من القرن الماضي ذروة التنظير الفكري لتيار الليبرالية الحديثة مع (فوكو، دولوز، ليوتار، دريدا) ( جان بودريار، سكوت لاش ولدى أنتوني جيدنز) في نتاجاته الذي يَقترح فيها حداثةً جذريةً كسياقٍ منفصلٍ، لتمثل مسائل التشكيك والتقويض والعدمية، واللانظام واللا انسجام وتحطيم أيّ مقولةٍ مرجعيةٍ، جوهر مابعد الحداثة.
تزعزع ما بعد الحداثة مكانة اللغة والهوية، فهي فلسفاتٌ عدميةٌ وفوضويةٌ، تزيف المعنى، وتقوّض العقل، وتنشر الإحباط والفوضى في المجتمع، وتعتمد على هيمنة الصورة التي أصبحت المحرك الأساس للمعرفة، وصنع الحقيقة، كما يتميز الفكر ما بعد الحداثي بالميل إلى بناء الوعي ذاتياً وليس مجتمعياً، والنسبية المعرفية والأخلاقية، وعدم الاحترام، كما تقوم العدمية في فكر ما بعد الحداثة على إزالة التمايزات بين المتناقضات، بين “الصح والخطأ”، وبين “المطلق والنسبي”، وبين “المقدس واللا مقدس”، ليتعامل المجتمع معها كظاهرةٍ طبيعيةٍ خلال حياته اليومية، لتأتي لحظة القطع المعرفيّ في سياق الحداثة مع إعلان موت (الكاتب في النص) و(السلطة المطلقة المعيارية في الحياة)، لتبدأ مرحلة تفكيك البنية الحداثية وأدقّ أجزائها وعلاقاتها البنيوية، وهنا يصبح كلّ إنسانٍ هو معيار ذاته في الفلسفة (النيوليبرالية المابعد حداثية) وهو ما يطلقون عليه (الليبراليون الحديثون) “حرية الضمير” وهنا تسقط قيمة العقل نهائياً ويصبح الفعل أخلاقياً حسب الرغبة الفردية طالما لا يؤدي هذا الفعل لخطر أمنيّ ماديّ على الآخرين فهو مسموح، ومعه يصبح الشذوذ أبعد من مسألة ممارسةٍ جنسيةٍ غير طبيعية وغير إنسانية، بل هو مميزٌ لسماتما بعد الحداثة ومنتجها النيوليبرالي قيمياً وأخلاقياً، فالمطلوب معها تدمير الأسرة (كقيمةٍ ومؤسسة)، والأخلاق والدين (كمعايير وضوابط)، والعادات وكلّ الأنساق المعيارية في المجتمع، لتصبح المجتمعات مستعدةً لعالم ما بعد الإنسانية قيمياً وأخلاقياً، مع الموجة الرابعة للعولمة.
راهناً تروج التيارات العولمية ما بعد الحداثية (الليبرالية الحديثة) إلى مسألة موت الفلسفة، فإذا كانت مسألة نهاية السلطة المعيارية المطلقة قد قادت إلى محاولة تسويغ الشذوذ، فمرحلة موت الفلسفة، وما تعنيه من موت المنطق، ونهاية العقل التأمليّ، ستقود إلى العصر الشكوكي الظنيّ – وفق أجندات النيوليبراليين-، الذي سيستهدف فكرة الأديان، ومن هنا نصل إلى هدف الليبرالية الحديثة وهو هدم فكرة الأديان، ليبدأ “عالمهم الجديد” بالظهور والمبني على أنقاض القيم الإنسانية، لذلك لابدّ من المواجهة فكرياً وسياسياً واقتصادياً وتوحيد الجبهات الثقافية العالمية للمواجهة، فليست الثقافة العربية وحدها هي المستهدفة بل كلّ الثقافات التي تناهض الغرب الليبرالي المتوحش بقيمه.
الدكتور سومر منير صالح – عميد كلية العلاقات الدولية جامعة الشام.