عن “قصف المساعدات” و”القصف بالمساعدات”
أحمد حسن
لا يمكن لمراقب موضوعي، تابع مسار القضية الفلسطينية الطويل، إغفال ذلك الرابط الدقيق والوثيق بين قصف المساعدات الإنسانية الذي تقوم به “إسرائيل” والقصف بالمساعدات الذي يقوم به حلفاؤها!
كلاهما يقوم بداية – ويطمح نهاية – بدور محدّد في السياق الإجرامي ذاته، فإذا كانت الأولى، أي عملية قصف المساعدات، تشكّل، واعية، فعل الإبادة العاري والصرف باعتباره فعلاً مستمراً ومقصوداً من أفعال الاحتلال الاستيطاني الإحلالي، فإن الثانية، أي القصف بالمساعدات، لا تقلّ عنها وعياً بدورها في الإسناد والتغطية باعتبارها فعلاً استعراضياً مقصوداً يؤكّد ويؤبّد، من جهة أولى، صفة اللاجئ المستحق للمعونة الفلسطيني، ويقدّم، من جهة ثانية، إعلاناً رسمياً – دولياً وعربياً – بالعجز عن مساعدته، ويمنح من جهة ثالثة تعويضاً نفسياً مخادعاً بالبراءة لشعوب هؤلاء المتواطئين بالمجزرة، وذلك كلّه مجتمعاً هو ما يساهم في قيامها واستمرارها وتأبيدها.
بهذا المعنى، يصبح من الطبيعي ألّا يجد الإعلام الغربي “المهني” و”الحيادي” في “مجزرة الطحين” التي ارتكبها جيش الاحتلال بأهالي غزة المتجمهرين أمام قوافل الإغاثة في شارع الرشيد، وعاود تكرارها يوم أمس في مكان آخر، سوى كونها “حادثة فوضوية” على شبكة “سي إن إن” الإعلامية الأمريكية الشهيرة، و”إشكالية” على صفحات “نيويورك تايمز”، بينما هي مجرد حادث “مأسوي”، و”مثير للقلق” بنظر الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي منع، بالتالي، إصدار بيان رئاسي في مجلس الأمن الدولي يحمّل السلطات الإسرائيلية مسؤولية الحادثة – اكتفى المجلس ببيان صحفي لا يعدّ وثيقة رسمية ولا يتم تسجيله في سجلات مجلس الأمن – لأن بلاده، أي واشنطن، لا تزال “تسعى بشكل عاجل إلى الحصول على معلومات إضافية” عن المجزرة، حسب الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية، ماثيو ميلر، الذي أضاف زاعماً وجود “تقارير متضاربة حول الحادثة”.
إنها إذن، وحسب هؤلاء جميعاً، ليست مجزرة مقصودة و”معتادة” في سياق إبادة جماعية راهنة تجري أمام سمع العالم وبصره، بل إنها لا تعدو أن تكون حادثاً عادياً له طابعه “المأسوي” المعتاد، وهذا ما يؤكده أكثر اكتفاء منظمة دولية “مستقلة” مثل “أطباء بلا حدود”، باعتبار الجريمة مجرّد نتاج مباشر لقرارات “غير حكيمة اتخذتها السلطات الإسرائيلية خلال فترة الحرب”.. إنها إذاً قرارات “غير حكيمة” فقط لا غير، وذلك قمّة النفاق وذروة التعتيم على مجزرة ارتُكبت بدم بارد وبقرار مسبّق.
وبالتأكيد لا يتوقّع أحد من هذا المسمّى “المجتمع الدولي” أن يحاسب “إسرائيل” على قراراتها “غير الحكيمة”، ولا يتوقّع أحد أيضاً أن يعود الإعلام “المهني” إلى أسس المهنة وضوابطها، ولا أن يستيقظ ضمير “بايدن”، أو أي رئيس أمريكي آخر، فيفتح أبواب مجلس الأمن الدولي لمهمّته التي وُجد، ولو نظريّاً، من أجلها، أو على الأقل أن يقول للمجرم كفى ويمنع عنه، ولو مرحلياً، الذخائر والأسلحة التي يمارس فيها مجزرته اليومية بحق هذا الشعب الأعزل، فالمهم بالنسبة لهؤلاء “صورة” إسقاط مساعدات شحيحة لا تُسمن ولا تغني من جوع، لأنها “صورة” تتساوق مع، وتخدم أولاً وأخيراً، “فعل” الإبادة المستمر أمام أعين الجميع كأبشع طريقة عرفها تاريخ العالم لاستمرار حلم “الباكس أمريكانا” لعقود، أو لقرون أخرى قادمة، لكن العالم يتغيّر، والأهم أن تلك الصدور الفلسطينية العارية ما زالت -رغم هول المجزرة واتساعها وظلم ذوي القربى- تقول: الأيام بيننا، وهي حبلى بالكثير.