غادة السمان.. تمرد من نوع آخر
أمينة عباس
قال عنها البروفيسور “ايروس بالديسيرا” في جريدة “الكويري دل تيشينو” الإيطالية: “انطلاقات الخيال الخلّاق لديها تجعل منها واحدة من الأصوات الأكثر تجديداً وأصالة في الأدب العربي المعاصر”، في حين وصفتها مجلة “ماريكلير” الإيطالية بأنها “صوت من أكثر الأصوات فرادة وأصالة وقدرة تصويرية في الأدب العربي المعاصر”، أما هي وحين سُئِلت مرة في إحدى مقابلاتها الصحفية في إيطاليا: “كيف تريدين تقديم نفسك؟” أجابت: “أنا لستُ نوعاً من النساء.. أنا مخلوق متوحد حزين شارد بين العصور والبلدان، أشبه بومة فضولية ليلية تطير بحثاً عن الحقيقة أكثر مما أُشبه أنثى لطيفة مدجنة من نوع معيّن كأنني روح سجينة في جسد وعصر ومكان”، ولأنها شخصية بهذا الحجم كان من الصعب على خالد شمس الدين الذي قدم محاضرة عنها، مؤخراً، في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة أن يختصر مسيرتها الحياتية والكتابية، لذلك اختار بعض المحطات وتوقف عندها، وفي مقدمتها نظرتها للحب.
هناك شيء آخر
وبيَّن شمس الدين أن غادة السمان تؤمن بأن الحب اكتمال وتمام، لا يمكن أن يتحقق من طرف واحد، كما الحب العذري أو الحب الصوفي، لأنها كاتبة واقعيّة في حبها ولا تؤمن بالاكتفاء الذاتي في الغرام، حيث لا بدّ من وجود اثنين لكي يتحقق شرط الحب، ولا بدّ من وجود قلبين وجسدين ورضا وتقبّل بين روحين، أما اللهفة والرغبة واللوعة من جانب واحد، فلا مكان لها في قاموس حب السمان التي ترى أن الحب طفل الحرية وفعل الإيمان، مشيراً إلى وصف هاديا سعيد للسمان: “فتحتْ غادة بوابة الحرية وزرعت الشجاعة في قلوب الكاتبات العربيّات، وأرشحها لجائزة نوبل لأنها افتتحتْ حقبة جديدة، وفي كل ما كتبت ترافعت عن الأمن والحرية”، لذلك كشفت عمّن راسلها كعاشق مثل أنسي الحاج، حيث أصدرت بعد رحيله عام 2017 كتاباً فيه هذه الرسائل وكتبت في إهدائه: “أهدي هذا الكتاب إلى الذين يعتقدون مثلي أن للشاعر ألف ملهمة وملهمة وحبيبة واحدة اسمها الأبجدية، والحب الذي لا يخونه الشاعر طوال العمر اسمه الشعر”، ومما جاء في الكتاب قول الحاج: “هل ينتقص من كرامة الإنسان أن يكون بحاجة إلى إنسان آخر؟ ربما نعم وربما لا، لكن المشكلة ليست في الجواب.. يبقى المحتاج محتاجاً.. هذه هي المشكلة، لكن لا بأس.. كيف الحال؟ لست مشتاقاً إليك فحسب، بل ماذا؟ لا أعلم تماماً.. الثابت هو أن هناك شيئاً آخر”.
وكانت غادة السمان قبل ذلك كشفت رسائل غسان كنفاني إليها، وقد كانت ملهمته، فأظهرت كما رأى شمس الدين جانبه الذي لا يعرفه الكثيرون في عالمه السياسي والأدبي، جانبه العاشق وقلبه المرهف، وقد عرفه العالم صلباً قوياً منتصراً بقلمه مواجهاً لأعدائه ومغتصبي وطنه، لا يعرف الضعف طريقاً إليه، لكن العالم لم يعرفه عاشقاً خاضعاً لإرادة وسطوة الحب ومغرماً ينسج قلمه كلمات تفوح حبّاً برائحة تمتزج فيها رائحة زهر دمشق وبارود يافا، موضحاً أن القصة بدأتْ بينهما في ستينيات القرن الماضي حيث كانت مجرّد معرفة عابرة في جامعة دمشق، ثم التقيا في القاهرة في إحدى الحفلات فقال لها: “ما لكِ كطفلة ريفيّة تدخل المدينة أول مرة؟” ومن هذا اللقاء توثقت الصلة بينهما وعاشا قصة حب متفرّدة ليتبادلا بعدها رسائل كانت ثمرة قصتها التي نشرتها السمان عام ١٩٩٢ في ذكراه السنوية بعنوان “رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان”.
ياسمينة سوريّة
وأشار شمس الدين إلى أن غادة السمان الياسمينة الشرقيّة السوريّة قرأت مكتبة كامل الكيلاني للأطفال برمتها، وفي عام ١٩٦٣ حصلت على الشهادة الجامعيّة في الأدب الإنكليزي من جامعة دمشق، ولقيت تقديراً كبيراً من كلية الآداب، حيث عُيّنت أستاذة محاضرة للّغة الإنكليزيّة، وكانت أصغر أستاذة في الجامعة، ثم سافرتْ إلى بيروت وحصلتْ على شهادة الماجستير في مسرح اللامعقول من الجامعة الأميركية هناك، وعملتْ في الصحافة، وبرز اسمها، حيث صارت واحدة من أهم نجمات الصحافة في بيروت يوم كانت تلك المدينة مركزاً للإشعاع الثقافي العربي، وقد ظهر أثر ذلك في مجموعتها القصصيّة الثانية التي تحمل عنوان “لا بحر في بيروت” عام ١٩٦٥ وكانت لهذه التجربة التي عرفتْ من خلالها الحياة والناس بشكل واسع ولدراستها الأدبين الأميركي والإنكليزي في الجامعة أثر كبير في نفسها وكتاباتها، إذ صارتْ لها رسالة واضحة عرفتْ معنى الجرأة والكفاح والثمن الذي يُدفع للتخلّص من الخوف وازدواج الشخصيّة، مبيناً أن السمان بدأتْ تكتب القصة بلغة نثريّة تبثّ فيها انفعالاتها المحمومة وآراءها الثائرة بحرية مطلقة، حيث عرفت أن الموهبة ليست كل شيء، ولا يمكن أن تبدع إذا لم ترفدها الثقافة، وبدأت تحسّ بالحاجة إلى خلق شيء جديد وتفجر طاقات لغتها العربيّة وتبرز حيويتها ومقدرتها على تقديم أفكار جديدة، ما أكسبها تميّزاً لغويّاً كما لاحظ النقاد، وحين سافرت إلى أوربا وتنقلت بين معظم العواصم الأوربيّة وعملت كمراسلة صحفيّة عمدتْ أيضاً إلى اكتشاف العالم وصقل شخصيتها الأدبيّة من خلال التعرف على مناهل الأدب والثقافة، وظهر أثر ذلك في مجموعتها الثالثة “ليل الغرباء” عام ١٩٦٦ التي أظهرتْ فيها نضجاً كبيراً في مسيرتها الأدبية، وجعلت كبار النقاد آنذاك يعترفون بها وبتميزها، مشيراً إلى أن هزيمة حزيران ١٩٦٧ كانت صدمة كبيرة لها ولجيلها، حيث كتبتْ مقالها الشهير “أحمل عاري إلى لندن” وكانت من القلائل الذين حذّروا من استخدام مصطلح النكسة وتأثيره التخديري على الشعب العربي، وتوقفت عن الكتابة لفترة من الزمن، لكنها نشطتْ في مجال الصحافة، حيث زادها ذلك قرباً من الواقع الاجتماعي، وكتبت في تلك الفترة مقالات صحفيّة كوّنت مواد دسمة لأدبياتها التي كتبتها فيما بعد لتصدر في العام ١٩٧٣ مجموعتها الرابعة “رحيل المرافئ القديمة” التي قدّمت بقالب أدبي بارع المأزق الذي يعيشه المثقف العربي والهوة السحيقة بين فكره وسلوكه، وفي أواخر عام ١٩٧٤ أصدرت روايتها “بيروت ٧٥” التي غاصتْ فيها بعيداً عن القاع الجميل لبيروت إلى حيث القاع المشوّه المحتقن، وما لبثت أن نشبت الحرب الأهلية في لبنان بعد بضعة أشهر من صدور الرواية.
طائر البوم
وأوضح شمس الدين أنه في عام ١٩٧٥ صدر لغادة السمان أكثر من ثلاثين كتاباً في القصة القصيرة والرواية والشعر والمقالة، منها: “عيناك قدري”، و”زمن الحب الآخر”، و”الجسد حقيبة سفر”، و”ليلة المليار”، وعدّت واحدة من أهم الروائيين في العالم العربي، حيث شقّت دربها وقفزت بقصصها إلى القمة بين عمالقة القصة في العالم العربي آنذاك، بأسلوبها الابتكاري الفريد والنسيج المتفرّد الذي يعتمد على تفجير الصور والتشويق والإثارة اللطيفة، مؤكداً أن تمرّد غادة السمان لم يكن مجرّد نزوة في الخط الأدبي السوري، إنما تمرد من نوع آخر ورغبة جامحة قوية بالولوج إلى عوالم مغلقة وخانقة وخجولة، مع إشارته إلى توضيح السمان أن عشقها لطائر البوم ليس بالمصادفة وهو الطائر الذي يبعث على القلق والخيبة واليأس والكآبة في عرف الغالبية العظمى، وأنه نذير شؤم وموت ومصائب وكوارث، وأن نعيقه ما هو إلا عويل رحيل ومؤشر لنهاية محتومة حزينة بائسة، في حين صار شعاراً لدار نشرها، وهي لا تكاد تمتلك صورة لنفسها إلا والبومة الحجرية تنتصب خلفها بكل انسجام ومودة.
ورأى شمس الدين أن أسلوب السمان تشبَّع بروافد الأساليب العربيّة والأجنبيّة، وصهرت ذلك في بوتقة كبيرة من التجارب الحياتيّة المتّسمة بحدة الصراع، كبيرة كانت تلك التجارب أم صغيرة، وذلك من دون تأطير بل تترك أطراف التجارب حرة لتشرك القارئ في وضع الإطار، فلا تنفك تأسره منذ بداية القصة حتى نهايتها، وتدعوه فيستجيب ليغيب معها في تلك المتاهات الحلوة والرحلات القصصيّة الناعمة.