ثقافةصحيفة البعث

“أشجار تتبعها الطرقات” نصوص سردية لـ طلال الغوار

هويدا محمد مصطفى

استطاع طلال الغوار باقتدار شعري عجيب امتلاك أدوات شعرية ترسم الصورة التي تخلق الرؤية، وذلك بقفز اللغة فوق المستوى الكلاسيكي والانزياحات اللغوية والانحرافات التعبيرية، بالإضافة إلى ما حملته هذه اللغة من شحنات متتالية وطاقات قادرة على التحدّي، وهنا تتخلق حيوية النص ويتعاظم توهجه، فنرى طاقة شعرية حية ونابضة للذات، ولاسيّما في مجال السرد الذي يمثل تأسيساً للتطور الجديد في مجال السرد الذي يمثل الخروج عما هو سائد من قواعد التجنس.
يتناول الغوار السرد وما وراء السرد بمعنى السرد الذي يعمل دالاً على سرد آخر وظهور الواقعية والتغير في الميتاواقعية، ومن خلالها تفسّر كيف أن المتخيل يفترق عن الواقع بفعل المخيلة التي تتعداه والربط بين الحدث العلمي والحدث السرد المتخيل، بمعنى أن النص عمل مفتوح يمتلك سلطة جديدة خاصة فيه، وفي نص بعنوان “البحر وتموجات المعنى” ص٢٧ يقول: “حينما تتسلق الأمواج قلاع أنوثتها، تغدو للروح والجسد لغة واحدة، هكذا كان البحر يرى في ساقيها وسادة، يلقي برأسه عليها، حالماً بالضفاف البعيدة”.. يحمل النص هنا خصوصية الأداء الفني المميز وضروراته المقنعة للقارئ ليس كفكرة فقط، إنما كون من الدلالة في تشكيلها الإبداعي إلى وعي المتلقي لكي تحدث أثراً مهماً، وتضيف أبعاداً أعمق تتألف في وحدة عضوية متماسكة ومتسقة مع دلالة الطرح تنسجم مع المفردات في عذوبتها وهمسها المليء بالانفعال العاطفي عبر صور هادئة كهدوء الموسيقا ترصد صورة ثرية متوهجة الإيقاع، وهذا يوضح مدلولاً آخر لمستوى رؤية الشاعر لعلاقة الحب بالزمن، وقد اعتمد التدرّج في التعبير من بنية إلى أخرى على الرغم من وضوح المعاني.

وفي نص بعنوان “دمشق في نهار خريفي” ص٢٧ يقول الغوار: “هنا في ساحة المرجة، حنجرة الوقت تزدحم باللهجات وبالأصوات، سرت في غمرتها حتى وجدت نفسي أقف على الجسر الصغير فوق نهر بردى، وأنا أصيخ السمع لهمسات المعنى، أي ذكرى تأخذ شكل الكواكب لتسطع في رأسي الآن بعد أن أيقظها همسك يا بردى كما لو أني أتأبط بغداد وأرى وجهي مختلطاً بشآبيب المطر ورائحة الأشجار”. هذا التصور في السردية التي تمثل بحثاً فيما يجعل النص بانفتاح على القصة أو الرواية من خلال القدرة على الانفلات من الواقع الوصفي والسردي بخلق السطوح المتعدّدة والطيات المخضبة، ومن الملاحظ أن الشاعر يعمل على تجاوز التصور السردي للنص، الخطاب القصصي، أو الحكاية أي الملفوظ القصصي نحو تصور للنص الذي يعدّ المعنى كتركيب للدلالات المشحونة في النص وترتيب منسق لمعاني الكلمات الواردة في سياق الخطاب.

وبطريقة ذكية جداً من الكاتب نجد أن هناك لعبة الحضور والغياب في بعض النصوص هذه الثنائية، وذلك الانفتاح على الأثر يتفتح على خلق جماليات النص عبر رؤية جديدة في التحديث السردي والتخيل في النصوص، وهذا ما قرأته في كتاب “أشجار تتبعها الطرقات” الذي يعدّ أحد المنجزات الحداثوية القريبة من المتلقي، حيث ذهب الشاعر إلى توظيف إمكانات اللغة وما تحويه من ترادفات وجناسات واستعارات واستخدام الصور الحيّة واعتماد مفردات استمدت من صميم التجربة والجو العاطفي، كما قسمت الحركة الشعرية في لغته السردية مجال التعبير عن التجربة الحياتية على حقيقتها عبر سبر أغوار خبايا النفس وما يعتريها من قلق روحي وتمزق سيكولوجي، ففي نص “غبار الأصوات” ص ٩٧ يقول الشاعر: “ينهض الصباح في الشارع مختلطاً بكيمياء الأصوات المختلفة ورائحة الكتب الموضوعة على الأرصفة والأجساد البشرية التي يسير بها بطيئاً حتى نهاياته، وأنا أفتح طريقي بصعوبة بين تزاحمها حتى تكاد تحسّ أن ثمة خصاماً خفياً فيما بينها”.

وهنا، نجد الشاعر قد تأمل عميقاً الذات الحائرة في داخله والذات المتأملة في خارجه هناك مسافة فراغية تتأرجح بين الهنا والهناك وبين الأنا والآخر بين الحضور والغياب بين الحب والفراق وبين البقاء والرحيل، فقد ظهرت تجليات من التوهج الذي يثيره السؤال أو الجديد من الأسئلة التي تعتمل في ذهن الكاتب الذي يعيش حالة من الطرح الدائم بحثاً عن الإجابة، فالنصوص في المجموعة هي تشريح كلي لواقع ممتدة فيه فلسفة الألم بأزمنة الفوضى الضائعة حاول ترجمتها عبر صور تخيلية تلونها البلاغة والمجازية، وفي نص “امرأة” ص ١١٠ يقول الغوار: “لماذا كلما حاولت أن أضع عقداً من الكلمات على عنق الزمن ينفرط بين يديها، وما الذي يثقل خطواتنا ونحن نغادر المكان، لم نحمل غير أحلام وأمل في أن نلتقي مرة أخرى، ربما الرغبة في البقاء أطول وربما هاجس التردد هو من يثقلها”.

وأخيراً أقول: وظّف الشاعر طلال الغوار نمطاً سردياً، معتمداً الرمزية أسلوباً ومنهجاً، فتوارى خلفها بذكاء اختياره لتقنيات السرد المتنوعة وأسلوبه البناء المعماري في هذا النوع الأدبي، وتاركاً للمتلقي متعة البحث عن المخبوء.