البعث بين الوطنيّة والقوميّة العربيّة
منذ المؤتمر التأسيسيّ (7 نيسان 1947) أعلن مؤسّسو الحزب أنّه قوميّ عربيّ (حزب البعث العربي)، وأنّه اشتراكيّ، وتأكّد ذلك بوضوح بعد اندماجه (عام 1952) مع (الحزب العربي الاشتراكي) ليغدو اسمه (حزب البعث العربيّ الاشتراكي).
وقد عبّر شعار الحزب (أمّة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة) وأهدافه (وحدة – حرّية – اشتراكيّة) عن توجّهه قوميّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً، وتشكلت بذلك بؤرة هويّة الانتماء إلى هذا الحزب، ورُسمت توجّهاته المعلنة والعمليّة الساعية إلى بناء دولة الوحدة ذات السيادة على الأرض العربيّة كلّها، وفق توصيف دستور الحزب لها، إضافة إلى بناء مجتمع الأمّة العربيّة الموحّد الذي تسود فيه العدالة الاجتماعيّة وفق نموذج اشتراكي عربيّ خاصّ.
كان الحزب صادقاً في توجهاته المعلنة والعمليّة، وكان في الوقت نفسه معبّراً عن تطلّعات جماهيريّة واسعة، ولا سيما في بلاد الشام والعراق، ثمّ في اليمن والسودان وغيرها من بقاع الوطن العربيّ، وهي تطلعات كانت مثاليّة حالمة، أُحبِطت مرّات ومرّات؛ أحبطت بإخفاق تجارب الوحدة، وبإخفاق توجّهات تحرير البقاع المغتصبة، ولا سيما فلسطين، وبانشطار البنية التنظيميّة للحزب، وبانشقاقات ولّدت أحزاباً جديدة خرجت من رحم حزب البعث.
ومع ذلك ظلّ الحزب في بنيته الرئيسة، وقيادته القوميّة، وفيّاً لشعاره وأهدافه، غير أنّه وجد نفسه في مواجهة تحدّيات جديدة، تحدّيات واقع جديد برزت أنيابه واضحة مع الاحتلال الأمريكيّ العراق (عام 1990) بخاصّة.
ما بين عام (1947) وسنة (1990) حدثت تحوّلات اقتصاديّة ومجتمعيّة وسياسيّة واسعة في الوطن العربي، أبرزت للعلن التمايزَ الواقعيّ التاريخيّ بين الأقاليم العربية الرئيسة (الشام -العراق -الجزيرة العربية -حوض النيل -المغرب العربي)، وهذا التمايز حقيقيّ، لكنّه لا ينفي عمق الروابط التاريخيّة بين هذه الأقاليم، وهي روابط عانت تناميَ الحدودِ الفاصلة بين الدول العربيّة ومجتمعاتها تنامياً لا قوميّاً، تمثّل في ظهور شعارات الدولة الوطنيّة أوّلاً، ولا سيّما لدى الدول التي صارت ترفل في وفر ماديّ باذخ بعد أن كانت تعاني الفقر المدقع.
خلال خمسين سنة تلت تاريخ ميلاد حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ ترسّخت الحدود الرسمية للدول العربيّة التي تشكّلت قبل هذا التاريخ وبعده، وتنامى التمايز في التوجّهات والسياسات العامة، وكانت في مجملها تميل إلى توطيد علاقات الدولة الاقتصاديّة مع غير محيطها العربيّ، إضافة إلى تصنيع خصوصيّة وطنية للدولة، مسيّجة بقوانين تؤكّد أنّ أحزابها السياسيّة -إن وُجدت- يجب أن تكون وطنيّة، وليس لها أي امتداد تنظيميّ خارج الحدود، مع ملاحظة أنّ بعض الدول العربيّة كانت، وما تزال، تحظر وجود الأحزاب السياسيّة فيها حظراً تامّاً.
إنّ بروز الدولة الوطنيّة العربيّة المسيّجة بأنظمة وقوانين تنظّم عمل الأحزاب السياسيّة أو تمنعه فرض على حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ إعادة النظر في بنائه التنظيميّ القوميّ، فكان من نتيجة ذلك إلغاء القيادة القوميّة للحزب، واستبدال مصطلح القيادة القطريّة بمصطلح القيادة المركزيّة، وكذلك استبدال مصطلح الأمين القطريّ بمصطلح الأمين العام للحزب.
هذا التغيير التنظيميّ كان مجال حوار في لقاء الرفيق الأمين العام للحزب مع مجموعة الأكاديميين والمفكّرين البعثيّين، عبر مطالبةٍ بعودة التنظيم القوميّ وتفعليه. وقد ناقش الرفيق الأمين العام الحضور استناداً إلى متغيّرات أوجبت إلغاء التنظيم البعثي المرتبط تنظيميّاً بقيادة قوميّة مركزها دمشق؛ لأنّ هذا الارتباط سيعود بالضرر الشديد على المنتمين، إلى هذا التنظيم القوميّ، من قبل دولتهم الوطنيّة، كما أنّ ذلك سيكون سبباً رئيساً لاضطراب العلاقة وتوترها بين سورية وغيرها من الدول العربيّة.
في السياق نفسه، بيّن الرفيق الأمين العام أنّ هذه المتغيّرات لا تنفي وجود تنظيمات بعثيّة في أقطار عربيّة مختلفة، لها استقلاليتها في اتخاذ القرارات وفق رؤيتها للواقع الذي تعمل فيه، وهذا لا يمنع أبداً وجود تنسيق لها مع الحزب في سورية، وهذا التنسيق قد يبلغ درجة عالية جدّا كما هو الحال مع تنظيم الحزب في لبنان، إضافة إلى أنّ هذه المتغيّرات التنظيميّة لا تعني أبداً المساس بشعار الحزب ولا بأهدافه العامّة.
إن الإقرار بصحّة هذه التوجّهات يستدعي سؤالاً جوهريّاً: أما يزال حزب البعث في سورية حزباً قوميّاً أم أصبح حزباً وطنيّاً سوريّاً؟
إنّ الإجابة عن هذا التساؤل ترسم مسار الحزب المستقبليّ، وهي إجابة تستدعي كثيراً من الحوار حولها؛ فالتمسّك بشعار الحزب وأهدافه يعنيّ أنّ توجهات الحزب الإستراتيجية هي توجهات قوميّة عربيّة، مع ملاحظة أنّ المتغيّرات الراهنة، بسبب الحرب في سورية وعلى سورية، تستدعي إعطاء الأولويّة لوحدة الأرض السورية وسيادة الدولة عليها، كما أنّها تستدعي إعادة إعمار سورية بشراً وحجراً واقتصاداً وسياسةً وثقافةً، وهذا يعني أنّ الهمّ الوطني السوريّ مقدّم على الهمّ القوميّ العربيّ لأسباب موضوعيّة بحتة، لكنّ هذا التقديم لا ينفي جدليّة العلاقة بين الوطني السوريّ والقوميّ العربيّ، من جهة تأثير كلّ منها وتأثّره في وحدة سورية وإعمارها واستعادة دورها المحوريّ في السياسة العربيّة.
وبناء على ذلك فحزب البعث في سورية تنظيماً وتوجّهاً سياسيّاً أولويّاً له طابع راهن وطني سوريّ، وله في الوقت نفسه توجهات إستراتيجية قوميّة عربيّة معلنة منذ تأسيسه. إنّ هذا التوصيف الآني للحزب يستدعي رؤى جديدة تنظيميّة وفكريّة تستجيب للتحدّيات السوريّة الراهنة استجابة تتفاعل فيها مع محيطها العربيّ بخاصّة تفاعلاً إيجابيّاً مفيداً.
إن مقولة (البعث بين الوطنيّة والقوميّة العربيّة) لها طابع حزبيّ وطنيّ، وقوميّ عربيّ، يغتني بالحوار في سياق وحدةِ الأهداف والشعارات، وتَجَدُّدِ الرؤى والمفاهيم والمعايير وإجراءات الوصول إلى الأهداف، وهذا لا يتحقّق إلّا في أجواء حوارية جديدة، تتعدّد فيها الآراء، ويتوحّد فيها الهدف داخل التنظيم الحزبيّ أولاً، وفي عمق الثقافة السوريّة ثانياً.
الدكتور فاروق أسليم
جامعة حلب