دراساتصحيفة البعث

الأوروبيون يتبادلون الاتهامات

هيفاء علي

بعد مرور شهرين فقط من عام 2024، يبدو بالفعل أن العالم ينهار، بدليل أن الأسبوع الماضي بدأ بدعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لنشر قوات برية تابعة لحلف شمال الأطلسي في أوكرانيا، ويمكن أن تكون مشاركة فرنسا متعدّدة الأوجه، بما في ذلك الصراع في غرب إفريقيا والأفراد الفرنسيون الموجودون بالفعل في أوكرانيا، إذ تفيد المعلومات بأنه في منتصف كانون الثاني، قضت موسكو على ما لا يقل عن 60 مرتزقاً فرنسياً في خاركوف، وهو ما قد يفسّر جزئياً ردّ فعل ماكرون العاطفي.

ومع ذلك، من المؤكد أن هذا ليس السبب الوحيد المحتمل لاستثمار باريس في دعمها المباشر للمجلس العسكري النازي الجديد، إذ تدور المصالح الفرنسية في إفريقيا في المقام الأول حول الحفاظ على النظام الاستعماري الجديد الاستغلالي للغاية الذي يضمن استمرار استخراج الموارد الطبيعية الإفريقية. وفي حين تدعم روسيا بقوة القوى التي تعمل على تفكيك هذا النظام الاستعماري، فإن فرنسا لديها دافع إضافي للانخراط بشكل مباشر في أوكرانيا، وهو ما يتجاوز خضوعها البسيط للمصالح الجيوسياسية الأنغلو-أميركية الصهيونية، وهذا ما يقود إلى نقطة أخرى هي التدخل البريطاني، فبعد بعد يومين فقط من تصريحات ماكرون الصادمة إلى حدّ ما، تفاخرت المملكة المتحدة بأنها ساعدت قوات نظام كييف في قتال الجيش الروسي، ويشمل ذلك التورّط المباشر لهيئة الأركان العامة البريطانية، بقيادة الأدميرال توني راداكين، في تدمير الأصول البحرية الروسية في أسطول البحر الأسود. ويبدو أن راداكين شارك أيضاً في عمليات سرية أخرى في أوكرانيا، وكلها تهدف إلى تقليص القدرات الروسية، كما تبيّن أن ألمانيا متورّطة أيضاً.

ففي الأول من آذار، نشرت مارغريتا سيمونيان، رئيسة تحرير قناة “آرتي”، تقريراً يحتوي على محادثة مسرّبة بين ضباط رفيعي المستوى في الجيش الألماني (بوندسفير) يتحدّثون بشكل عرضي عن الهجوم على جسر القرم بما يصل إلى 20 من ” صواريخ كروز”.  تتضمّن المحادثة، التي تستمر 40 دقيقة تقريباً، الجزء الذي يتحدّث فيه ضباط الجيش الألماني أيضاً عن الحفاظ على مبدأ الإنكار المعقول.

كل هذا يشي بتورّط الناتو في العديد من الهجمات الإرهابية وعمليات التخريب التي تستهدف البنية التحتية الروسية، داخل وخارج البلاد؟ ويؤكد مرة أخرى التورّط المباشر لموارد الناتو، وفي المقام الأول منصّات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، ما يعني أن برلين ولندن وباريس ليست الدول الوحيدة التي تدعم الطغمة العسكرية النازية الجديدة بالتأكيد، وهذا ليس مفاجئاً، لأنه من المعروف منذ فترة طويلة أن الأفراد الغربيين شاركوا بشكل مباشر في كل عملية كبرى تنفذها قوات النظام في كييف رسمياً.

ويمكن العثور على دليل واضح على هذه الفكرة في ردّ فعل ألمانيا على التسريبات. والواقع أن ألمانيا اعترفت بأن المحادثة كانت حقيقية، ولكن بدلاً من إصدار اعتذار رسمي على الأقل، اتهمت روسيا بـ”شن حرب معلومات” ومحاولة “بث بذور الفرقة”، حتى إن آلة الدعاية السائدة اعترفت بأن المحادثة شملت قائد القوات الجوية الألمانية الجنرال إنغو جيرهارتز، والعميد فرانك غريفي، إلى جانب ضابطين آخرين في الجيش الألماني، متسائلين عن كيفية حصول سيمونيان على التسجيلات.

ومن المثير للاهتمام أنه حتى عندما يتم القبض على الغرب متلبّساً، فإن ذلك يظل بمنزلة “تضليل روسي”. ومن ناحية أخرى، فإن فكرة أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “يشنّ حرباً ضد ألمانيا” من خلال الكشف عن معلومات حول خطط الحرب الفعلية التي تضعها برلين ضد موسكو، تظهر أن الأوهام الخطيرة لقادة الناتو هي بالتأكيد ذات طبيعة نفسية، وعلى وجه التحديد نرجسية واعتلال اجتماعي، حتى الميول السيكوباتية، وتتميّز هذه الاضطرابات النفسية بما يسمّى “عقلية الضحية”، حيث يحاول الجاني تبرير أفعاله من خلال تحويل اللوم.

ومن ناحية أخرى، لا يمكن التغاضي عن الديناميكيات الجيوسياسية التي ساهمت في الكشف الصادم الذي حدث الأسبوع الماضي، وقد اعترف المستشار الألماني أولاف شولتز مؤخراً بأن الجنود البريطانيين والفرنسيين ساعدوا بشكل مباشر المجلس العسكري النازي الجديد في إطلاق صواريخ بعيدة المدى على أهداف روسية.

ولكن لندن غضبت بشكل خاص من تعليقات شولتز، التي قد تشير إلى أن الاستخبارات البريطانية متورّطة إلى حدّ ما في تسريبات الجيش الألماني، لأسباب ليس أقلها صرف الانتباه عن تواطؤ المملكة المتحدة في الهجمات المباشرة على الأصول البحرية الروسية. وبعبارة أخرى، يبدو أن الأوروبيين يتبادلون الاتهامات الآن من أجل تجنّب العواقب المحتملة للغضب الروسي، وموسكو غاضبة بالتأكيد  وهي على حق، لكن الغرب السياسي يظل غافلاً تماماً عن الخطوط الحمراء.