الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

خليل الموسى..!

حسن حميد 

بلى.. ها هي صورته ماثلة أمامي منذ الصّباح، وهو بكامل قيافته، إنه يحدثني بألم عن الإبداع، والثقافة، وقلة الرصانة التي تجتاح المشاهد الأدبية في جلّ البلاد العربية، وكأنّ هذه المشاهد لم تتأثر بحضور  قامات أدبية كبيرة خلال السنوات الماضية في الشعر والسرد عامة، والنقد والسيرة الأدبية (الذاتية والغيرية في آن) خاصة.. نعم، إنه الصديق الذي رحل قبل عشر سنوات، الدكتور خليل الموسى، الأستاذ الجامعي وافر الحضور والمكانة داخل قاعات الدرس، والشاعر والمترجم والناقد المحترم خارجها، والرجل العذب صاحب الثقافة الموسوعية البعيد كلياً عن التعالي لأنّ قلبه محتشد بالمحبة الصافية، والمثقف المبدع الذي لم يبخل برأي أو مصارحة في تقييم الأعمال الأدبية حين  تعرض عليه، ومنها رسائل الدكتوراه والماجستير التي وقفت على تجارب الأدباء القدامى والمحدثين، ومنها أيضاً الروايات والقصص والقصائد التي كتبها الأدباء الطالعون.

لقد أدرك خليل الموسى (1942 – 2014) أنّ الحياة تواصل، وحلقات إبداعية وثقافية، بعضها يأخذ بأيدي بعضها، والإبداع ابتكار وجدة وسمو وتعب شاق ومواهب ثقيلة في حضورها، لهذا كانت حياته حياة صداقة مع الثقافات جميعاً، وحياة تواصل مع الأجناس الأدبية وتراسلها فيما بينها، مع الاحتفاظ بخصوصية كلّ منها، فهو لم يقدّم الشعر على السرد، ولا النقد على السيرة الأدبية، إنما قدّم الجميل والنايف على من عجز عن تظهيرهما عياناً فيما كتب، ورأى أنّ هذه الأجناس الأدبية في تدافع ومنافسة فيما بينها، وفق مقتضيات أزمانها ومتطلباتها، فمرة يتقدم الشعر لجماله، ومرة تتقدّم الرواية لجمالها، من دون أن يكون التخلف عن التقدم عيباً تجهر به النصوص إلا إذا عمّ التخلف فصار عجزاً، فالشعر الجميل يظلّ شعراً جميلاً، حتى لو تقدّمت عليه الرواية في الحضور، والقراءة، والنشر، والترجمة لأنّ الأجناس الأدبية لا تموت، ربما تعرف البطء والجمود والتواري والعزلة لكنها لا تموت، وبسبب هذه الثقافة والرؤى النقدية التي عرف بها الدكتور خليل الموسى، وهو المطّلع على ثقافتنا، منذ أيام التدوين وإلى يوم رحيله، والعارف بالثقافة الفرنسية وجواهرها، لكونه يتقن اللغة الفرنسية ويترجم عنها، فإنه رأى إنّ الثقافة الإبداعية هي جذع ينبت عليه جمال مورق جديد خليق بالثمار ذات الطعوم الزاكية.

وأدرك الدكتور خليل الموسى أنّ المثقف المحظوظ في هذه الأيام هو من تقفى الدروب التي مشاها أهل الثقافة، أصحاب النظرات والنصوص والإبداع الرزين، ومن بين هذه الدروب السعي لاكتساب صفة المثقف الموسوعي أو المثقف الشامل الذي أدرك ما في علوم المعرفة جميعاً من نفع وجمال وإبداع، واقتنع أنّ بناء القصيدة والرواية واللوحة التشكيلية هو هندسة آتية من العلوم الرياضية، وأنّ صحة النصوص وعافيتها تشبه صحة الأبدان وعافيتها بلغة أهل الطب، وكذلك هي عيوب الإفاضة والترهل في النصوص التي تشبه عيوب الأشجار حين لا تلتفت إليها يد الحذق.

الدكتور خليل الموسى ابن حوران، ولد في قرية تبنة في الجنوب السوري، اعتمد على اقنوم الروحانية داخل النصوص، وهو الذي يربخ فيه ماء القلب الذي يمدّ الأدب بيخضورية مورقة وبارقة في آن، لهذا أعاد اليبس والقحل والتمحل في النصوص الأدبية إلى أنها لم تعرف ماهية الروحانية الواقعة ما بين مضمرين أو عالمين تكتنفهما السرانية، عالم الموت ـ العالم السفلي ـ، وعالم الخيال ـ عالم السماءـ، وهذه فكرة جوهرية عمّت جميع أساطير العالم، ولا سيما الأساطير الإغريقية، وفي هذه العوالم الثلاثة: عالم الموت، وعالم الخيال، وعالم الواقع، تتجلى حياة الإنسان بكلّ ما فيها من حيوية وعافية من جهة، وبكل ما فيها من أسئلة كشّافة من جهة.

فالنصوص الأدبية النايفة عند الموسى، ليست حكايات، كما في الروايات والقصص والسيرة الأدبية، ولا أغراضاً وموازين وحسب كما في الشعر، إنما هي بنية فلسفية تنوس ما بين الخير والشر، والجمال والقبح، والحق والباطل، تبديها القصيدة، والرواية، واللوحة التشكيلية، والقطعة الموسيقية، فالحكايات والأغراض تندثر وتمحى، أما ما هو قريب من ملح الفلسفة فهو باق، وإنّ أزور عنه الخلق أو تجاهلوه تحييداً وعزلاً، ولهذا كان المهم القار في وجدان الموسى ليس القول المحمول على كفّ الأدب، إنما هو كيفية القول كيما يبقى ويدوم.

كتب الموسى الشعر ليمجّد ثلاثة عوالم هي: الطبيعة وما فيها من دروس، وثنائيات، وألوان، وتعدد بيئات، والقيم وما لها من حدود دنيا وعليا ومتوسطة، والكائن البشري وما تعصف به الشهوات والنوازع والأحلام، وهذه إن لم ترها القصيدة فتأخذها غمراً باليدين، فهي ليست بقصيدة، وكتب أيضاً النقد الأدبي العارف بالبنى الهندسية للنصوص الإبداعية، فأبان ما فيها من حذق اثنين: هما الواقع والخيال وقد تبادلا صور الجمال والاشتقاق المعرفي، والانتقال من نهاية إلى نهاية حتى الوصول إلى الخاتمة، كذلك ترجم نصوصاً من اللغة الفرنسية كيما يفيد بها أهل الإبداع، وليقرّب لنا صور الجمال في أزمنتها، أي ليقول لنا إن صور الجمال تدور وتتحرك في حال من المغايرة الدائمة.

الآن نستذكر خليل الموسى لأنه كان الشاعر، والناقد والرائي، والمثقف الذي تقفى دروب عشاق المعرفة ليجلو لنا جماليتها ويكشف عن أسرارها كيما تظلّ الثقافة دارة القيم  للإنسان الحالم بالمجد الآبد والعزة التي لا تنفد أسرارها.

Hasanhamid55@yahoo.com