تراجع ثقة البريطانيين بسياسييهم إلى مستوى مذهل
عناية ناصر
لن يُفاجأ من تابع الحياة المدنية البريطانية في السنوات الأخيرة على الإطلاق بنتائج الدراسة الحديثة التي أجراها “مكتب الإحصاءات الوطنية” في البلاد، أن 12% فقط من الجمهور يثقون بسياسييهم، وهي نسبة متدنية بشكل كبير، حيث يشعر البريطانيون بالغربة على نحو متزايد عن أولئك الذين من المفترض أنهم تم انتخابهم لتمثيل مصالحهم. والأسوأ من ذلك أنهم يشعرون بعدم القدرة على التأثير في الجهاز البرلماني المتهوّر الذي يبدو أنه يُستخدم لخدمة السياسيين أكثر من خدمة الشعب.
تتمثل مهمّة “مكتب الإحصاءات الوطنية” في جمع ومعالجة وتحليل البيانات المتعلقة باقتصاد المملكة المتحدة ومجتمعها وسكانها، ويعدّ على نطاق واسع سلطة مهنية ومحايدة، وهذا يجعل نتائج المسح السنوي للثقة في الحكومة مذهلة للغاية.
لقد بلغ انهيار الثقة في الأحزاب السياسية نسبة متواضعة بلغت 12% هذا العام، وهي نسبة أقل من النسبة المؤسفة بالفعل التي بلغت 20% في التحليل السابق، كما انخفضت نسبة البالغين الذين يثقون بالحكومة نفسها – من 35% إلى 27%- وانخفضت الثقة في البرلمان، المؤسسة التي يعمل فيها السياسيون، من 34% إلى 24%.
تعكس هذه الأرقام دراسة أجرتها إحدى شركات أبحاث السوق العام الماضي، حيث قالت: إن 9% فقط من البريطانيين يثقون في سياسييهم بقول الحقيقة (أدنى مستوى منذ 40 عاماً). والاستنتاج الحتمي الذي يجب استخلاصه هو أن أغلب البريطانيين يعتقدون أن الطبقة السياسية التي تتمتع بالسلطة على اتخاذ القرارات التي تتحكم في حياتهم كاذبة.
أحد الأسباب التي تجعل الرأي العام في بريطانيا يشعر بخيبة الأمل تجاه سياساته هو المبدأ السائد الذي يفضّل الوسطية السياسية. ويتردّد قادة الحزب في الظهور بمظهر اليساريين أو اليمينيين أكثر ما ينبغي خوفاً من إبعاد الدعم لهم، لذا فإنهم ينجذبون نحو الوسط. وهذه ليست سياسة قناعة أو أيديولوجية، بل هي سياسة إتاحة الفرصة للأفراد الذين يخدمون مصالحهم الذاتية والذين هم على استعداد لتغيير سياساتهم وحتى آرائهم لمنح أنفسهم أفضل فرصة للفوز.
من المتوقع إجراء انتخابات عامة في بريطانيا هذا العام، في بلد كان في الأساس نظاماً قائماً على الحزبين لأجيال عديدة. ويهيمن حزبا المحافظين والعمال على الانتخابات ويتناوبان بانتظام في الحكومة، ويرجع ذلك إلى حدّ كبير إلى النظام الانتخابي الذي عفا عليه الزمن وغير العادل والمعادي للديمقراطية في البلاد، والذي يعمل على تهميش واستبعاد الأصوات خارج المركز. وهذا يجعل من الصعب على الأحزاب الأخرى ذات الصلة، مثل حزب الخضر، وخاصة المجموعات الصغيرة، أن تكون ممثلة في وستمنستر.
وفي الانتخابات، لن يكون هناك الكثير للاختيار بين مرشحي الحزبين الرئيسين في جوانب مهمّة من السياسة. والواقع أن حزب المحافظين بقيادة ريشي سوناك وحزب العمال بقيادة كير ستارمر اتهم كل منهما مؤخراً بسرقة سياسات الطرف الآخر وتقليد وجهات نظره. ولم يتحدّث أي منهما علناً ضد الحرب في غزة، على سبيل المثال، إلا بعد أن كانت مشتعلة لعدة أشهر. وقد أعلن كلا الحزبين دعمه للقواعد التي تمنع الأسر من الحصول على إعانة حكومية لأكثر من طفلين، وهو الأمر الذي يؤثر في العديد من الأسر ذات الدخل المنخفض.
وفي المقلب الآخر، فإن كلا الطرفين على استعداد لرفع الحدّ الأقصى لمكافآت المصرفيين ــ وهو الأمر الذي تم تصميمه لتثبيط السلوك الاستثماري المتهوّر ــ والسماح لهم بسداد أقساط غير محدودة، كما أعلن كلا الحزبين عن ضرورة الاستمرار في سياسات التقشف التي يُلقى عليها اللوم في الطبيعة المتدهورة للاقتصاد البريطاني. ويفضّل كلا الحزبين اتخاذ إجراءات صارمة ضد الهجرة غير الشرعية، ويوافقان على زيادة الإنفاق الدفاعي، والاحتفاظ بمنظومة الردع النووي “ترايدنت” (على الرغم من فشل تجربة إطلاق أحد الصواريخ التي يبلغ ثمنها 17 مليون جنيه إسترليني مؤخراً) ومواصلة الدعم لأوكرانيا.
إذا كان على البريطانيين، اليائسين إزاء الافتقار إلى الاختيار بين أولئك الذين يسعون إلى حكمهم، أن يجرؤوا على التحدّث علناً والاحتجاج، فإن المؤسسة تكرس الكثير من الوقت والجهد في وضع قوانين تهدف إلى تثبيط المظاهرات وتقييدها. وزادت حدة التوتر بسبب شكوى السياسيين أنفسهم من أن قوة المعارضة تعرّضهم للخطر. يسمّون المسيرات الاحتجاجية “مسيرات الكراهية”. إذا كان هناك شيء يكرهه الناس، فهو الكذب عليهم وعدم خدمتهم من أولئك الذين وظيفتهم هي خدمتهم، ولهذا السبب فإن القليل من الناس يثقون بهم أو يصدّقونهم.