من هم يهود الحريديم؟
تردّد كثيراً خلال الفترة الأخيرة، ولاسيما بعد معركة طوفان الأقصى، مصطلح أو عبارة اليهود الحريديم، في إشارة إلى التيارات الدينية المتطرّفة في الكيان الصهيوني الذي هو أساساً قام على التطرّف والتعصّب للصهيونية المتدينة، وعلى رواية وسردية تاريخية نواتها الصلبة الدين اليهودي، وعند الحديث عن اليهودية الحريدية أو الحريديم المقصود هنا يهود التقوى، وهو معنى المفردة في اللغة العبرية، حيث يؤمن الحريديون ويتمسّكون بالنص الحرفي للتوراة وتفسير الحاخامات لها، ويؤمنون بأن حياة اليهود وسلوكهم يجب أن ينطلقا ويتمسكا بالشريعة اليهودية بكل تفاصيلها، من حيث الطعام والشراب والطقس الديني والأعياد اليهودية والزواج، وبالتالي لا يؤمنون بالقوانين الوضعية وما يسمّى المبادئ الديمقراطية، فوفقهم يجب على الدولة فرض التعاليم اليهودية على الحياة اليومية لسكان “إسرائيل”، وحيثما وُجد اليهود يرفضون الانفتاح على أية ثقافة أخرى، ولعل مفهوم الغيتو أي الحي اليهودي هو التعبير الأمثل لوصف سلوكهم الانعزالي، إضافة إلى أنهم يرفضون بشكل قاطع اعتماد النظام الديمقراطي أساساً للحياة السياسية.
ويرفض الحريديون التجنيد الإجباري والخدمة في الجيش الإسرائيلي لأسباب عديدة، منها أنهم يعتبرون أن الدفاع الروحي عن “إسرائيل” أهم من الدفاع عنها عسكرياً، إضافة إلى تمسّكهم بالزي واللباس الديني، وكذلك لا يقبلون فكرة الاختلاط مع النساء، وهي حاصلة في الجيش الإسرائيلي وتعارض حياتهم الدينية مع أسلوب الحياة والعمل في الجيش، ولاسيما عطلة يوم السبت لأن حياتهم مكرّسة للإيمان وفق تصوّراتهم.
وقد واجهت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة قضية الحريديم وتعاملت معهم معاملة خاصة، وأفردت قوانين خاصة لهم ولاسيما قضية تجنيدهم بالجيش حيث أعفوا من ذلك لجهة ضمانهم تعاليم الديانة اليهودية والحفاظ عليها، ولاسيما أنهم يشكّلون نسبة 13 بالمائة من المستوطنين الصهاينة، ولديهم نسبة تزايد أكثر من غيرهم من الجماعات اليهودية، ولعل طرح مسألة عدم تجنيدهم في الجيش في الآونة الأخيرة بعد معركة طوفان الأقصى، وما تكبّدته قوات الاحتلال من خسائر بشرية كبيرة بفضل استبسال وشجاعة المقاومة في غزة، والحاجة إلى تجنيد الآلاف وزجّهم في الجيش، قد برزت على السطح وأصبحت قضية رأي عام في الكيان الصهيوني، ما استدعى ردّة فعل من قياداتهم الدينية والسياسية وصلت إلى درجة التهديد بمغادرتهم ما سمّي أرض “إسرائيل” التاريخية حال إلغاء القوانين والتشريعات المتعلقة بإعفائهم من الخدمة في الجيش، وكان لتلك التصريحات الصادرة عن مرجعياتهم الدينية صدى واسع في الأوساط السياسية والاجتماعية، ما ينذر بعودة حالة الاستقطاب التي ظهرت في الكيان قبل عملية طوفان الأقصى بين التيارات الدينية والعلمانية على خلفية تقييد صلاحيات المحكمة الدستورية العليا لمصلحة الكنيست والحكوم،ة وهي الحالة التي توقفت بعد معركة طوفان الأقصى انسجاماً مع ما سمّي ظروف الحرب.
إن ما تكشفت عنه الأوضاع في الكيان الصهيوني منذ اندلاع المواجهات بين القوى الدينية وتياراتها المختلفة والتيار العلماني قبل معركة الطوفان، ومن ثم عودة الحديث عن انقسامات عمودية في المجتمع الإسرائيلي على خلفية الدعوات لانخراط جميع المستوطنين في الخدمة العسكرية، ولاسيما يهود الحريديم، يكشف حقيقة عدم الانسجام في البنية الاجتماعية لمستوطني هذا الكيان، والفشل فيما سمّي عمليات الصهر للمستوطنين المهجّرين من مجتمعات وبيئات وثقافات مختلفة ليشكّلوا مجتمعاً منسجماً متناغماً تحت عنوان وطن ومواطنة، وبروز حالة التناقض بينهم في أول هزة اجتماعية أو سياسية أو عسكرية، وهذا ما هو حاصل في الوقت الحاضر، ولعل إبراز نقطة الضعف هذه هي من نتائج وتداعيات معركة طوفان الأقصى على التجمّعات الصهيونية في البؤرة الاستيطانية المسمّاة زوراً (دولة إسرائيل) التي هي في جوهرها تجمّعات أشبه ما تكون بطبقات الأرض الجيولوجية تعيش حالة تراكمية لا تفاعلية.
د. خلف المفتاح