نافذة على الشعر النبطي السوري
عبد الكريم العفيدلي
الشعر الشعبي أو المحكي أو العامي تختلف مسمياته وينسب إلى الهجة التي ينطق بها أهل منطقة ما أو قبيلة ما، هو شعر أصيل يحتكم إلى الأوزان التي تختلف أو تتفق مسميات بحورها مع الفصيح، وبخلاف الفصيح لا يخضع لقواعد الإعراب المعروفة.
تعددت مدارس الشعر الشعبي العربي تبعاً للأقاليم وتوزع القبائل العربية التي تتمايز بلهجاتها عن بعضها البعض، والمهتم بهذا النوع من الشعر يستطيع تمييز القصائد ونسبتها للقبائل تبعاً للهجة التي كتبت بها.
ولو أردنا تسليط الضوء على مدارس الشعر الشعبي في سوريا، سنجد أن هناك ثلاثة مدارس مهمة هي النبطية والفراتية والزجلية، تكاد تمثل الشعر الشعبي في الخارطة العربية، وهذا لم يجتمع في أي دولة عربية ويعود ذلك إلى تنوع البيئات والتوزع الديمغرافي في سورية التي كانت وماتزال لوحة فسيفساء جميلة تمثل وجه الشرق الحقيقي بتراكمه الحضاري منذ آلاف السنين.
ومع هذا التنوع يعلو كعب الشعر النبطي، لكنه بقي محصوراً ضمن الدواوين تتراواه الأجيال المتعاقبة أو وجد له متنفساً من خلال إنشاد بعضه على آلة الربابة ولا تزال تعده القبائل السورية جزءاً من الموروث والهوية، فقد حفظت القصيدة النبطية مآثرهم ونضالهم وأنسابهم ونوعوا في أغراضهم من الحكمة للغزل للوطني للوجداني للمديح والهجاء، ونستطيع قول إنّ شعراء النبطي السوريون طرقوا كل أغراض الشعر، حالهم حال الشعراء الجاهليين حتى أن صورهم وتراكيبهم وألفاظهم كانت مستوحاة من بيئتهم، والبادية السورية أو كما يسميها أهل الجزيرة العربية البادية الشمالية يسجل لها أنها مسقط رأس هذا اللون من الشعر على الرغم من أنه ترعرع في نجد والحجاز.
يذكر بعض المؤرخين أن الشعر النبطي ولد في سوريا، فقد جاء في مقدمة ابن خلدون: “ومن شعر عرب البرية بالشام ثم بنواحي حوران لامرأة قتل زوجها بعثت إلى أحلافه من قيس تغريهم بطلب ثأره”، نلاحظ هنا أن مسمى الشعر النبطي لم يكن معروفاً في زمن ابن خلدون فقد أسماه بشعر عرب البرية، ولم يذكر لنا زمن القصيدة، أو كيف وصل إليه في المغرب وهل سمعه من نفس القبيلة أم أن هناك من رواه له، والمرأة التي تحدث عنها هي أم سلامة ينسب إليها أنها أول من قال الشعر النبطي عندما قتل زوجها فأرسلت قصيدة إلى أحلاف زوجها من قيس تستنهضهم للأخذ بثأره، تقول فيها:
تقول فتاة الحي أم سلامه
بعين أراع الله من لا رثالها
تبات طوال الليل ما تألف الكرى
اموجعه كن السفا في مخالها
على ما جرى في دارها وابو عيالها
بلحظة عين غير البين حالها
فقدتوا شهاب الدين يا قيس كلكم
ونمتوا عن أخذ الثار ما ذا وفالها
أنا قلت اذا ردوا الكتاب يسرني
وتبرد من نيران قلبي ذبالها
أيا حيف تسريح الذوايب واللحا
وبيض العذارى ما حميتوا جمالها
قد يقول قائل من أين جاءت تسمية هذا الشعر بالنبطي؟.. لقد حاول بعض الباحثين نسبته إلى قوم من الأنباط، لكن الحقيقة غير ذلك تماماً، فقد أخذ هذا المسمى لأنّه استنبط من اللغة الأم بالوزن والمعنى والنظام، فنجد بالشعر النبطي بحوراً تتلاقى مع الفصيح بالمسمى والتفعيلات فمثلاً:
البحر الطويل الفصيح هو ذاته بحر الهلالي النبطي، وبحر الوافر الفصيح هو ذاته بحر الصخري النبطي المشهور، وهكذا من بحور الشعر النبطي التي اختلفت مسمياتها عن مسمياتها الفصيحة واستنبطت من أوزان بعض البحور الفصيحة وأخذت مسميات أخرى كانت بحوراً رئيسة أو مبتكرة، المسحوب وتفعيلاته: مستفعلن مستفعلن فاعلاتن، والهجيني القصير وتفعيلاته مستفعلن فاعلن فعلن، والهلالي وتفعيلاته فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن، والحداء وتفعيلاته مستفعلن مستفعلن مستفعلن، والرجد وتفعيلاته فاعلن فاعلن فاعلن، والصخري وتفعيلاته مفاعلين مفاعلين فعولن، والفنون وتفعيلاته فاعلاتن فاعلاتن فاعلن، الزهيري وتفعيلاته مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعل، والشيباني وتفعيلاته مفاعلين مفاعلين مفاعلين مفاعلين.
ويعدّ الشعر النبطي أقرب ألوان الشعر الشعبي إلى الفصحى، ولم تقتصر كتابته على قبيلة بعينها فكل قبيلة سورية لديها في مورثوها كم هائل من القصائد لايزال القسم الأكبر منها في صدور الحفظة على الرغم من اندثار الكثير بسبب قلة اهتمام المؤسسات المعنية بالحفاظ على الموروث.
والشعر النبطي حاله حال الشعر الجاهلي في التصوير، فقد ضمن شعراء النبط من خلال قصائدهم النبطية فروسيتهم وأخبارهم وأيامهم ووصفوا البادية والخيل والطير والخيمة والقهوة وفي الوقوف على الأطلال.