الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

كُوى..

عبد الكريم النّاعم

الكوّة هي تلك المساحة المفتوحة في جدار، أو على أُفق، تستطيع منه أن تطلّ على مساحة ما، قد لا تُغطّي المشهد كلّه، لكنّها تسمح لك بإدراك مساحة، قد تكون صغيرة، ولكنّها تعطيك صورة مصغَّرة عن المَشهَد.

***

لكن لا بدّ من مراجعة الدائرة المتخصصة، وهو يكره الذّهاب إلى دوائر الدولة، لِما يراه من صلَف الموظفين، وطريقة تعاملهم مع المراجعين، حتى لكأنّهم يرمّمون ما بأنفسهم من مذلّة، وما من خيار آخر، فهو يُجري تبديلات أساسيّة في سيارته التي يعتاش منها.

قال له الموظّف المختصّ: “غداً سأكون في المنطقة الصناعيّة التي وضعتَ فيها سيارتك، في اليوم التالي جاء السيد الموظف وهو يقود سيارة “جيب” خاصة.. موظف يمتلك سيارة “جيب”!! ألا يدلّ هذا على أنّ ما يدخل جيبه يؤهّله لذلك؟ بعد المُعاينة ناوله المواطن المُراجِع خمسين ألفاً اقتطعها من لقمة أولاده، فنظر إليه الموظّف نظرة اشمئزاز، وقال: “ما هذا؟!! ردّها على جوعتك”!! فزادها خمسين ألفاً أخرى، فقَبِلها بترفّع، وانتفاخ، وكأنه هو الذي يُعطي لا الذي يأخذ.

كان ثمّة ضرورة لمراجعة ثانية.. هذه المرّة جاء السيد أبو “الجيب” بجانب سائق سوزوكي، فسأله صاحب المحل الذي تُصلَح فيه السيارة ببراءة:” شو وين الجيب”؟!! فأجابه بما يُشبه الانكسار: “اسكتْ، لولا حلم الله كنّا رحنا، عملنا حادث، فنجونا بأعجوبة، والسيارة تحتاج إلى قرابة عشرين مليون لتعود كما كانت”..

***

وقف أمام الموظف بحذر. نظر الموظف إليه، وشقَلَه بعينيه، وقال له بنبرة مَن يطرد شيئاً لا يريده: “ألم أقل لك قَدِّمْ طلباً”؟

أجابه بحذر أشدّ: “قدّمتُه البارحة”. أجابه الموظّف بنبرة أشدّ من الأولى، وهو ينفض كفّيه: “ضاع.. ضاع.. بتعرف شو معنى ضاع؟!!”. خرج المواطن مُنكسرأ، الموظف يريد منه رشوة، وهو يحفظ ما ورد عن رسول الرحمة (ص) وآله: “لعنَ اللهُ الراشي والمرتشي والرّائش” (الرّائش هو الوسيط في الرشوة).

اتّصل بصديق له يعرف مدى نفوذه في دوائر الدولة، وشرح له ما عاناه، فأجابه: “ابقَ مكانك حتى أتّصل بك”. وقف ينتظر، بعد دقائق، حسبها دهراً، اتّصل به  صديقه، وقال له: “اذهبْ لمكتب المدير”. دخل مكتب المدير فوجد الموظف وهو يُقسم للمدير إنّ الطلب كان ملتصقاً بطلب آخر، ولم يجده. كان في وضع من التّذلّل لا يُحسد عليه.. أثناء ذلك رنّ موبايله، فقال له المدير: “ردّ!!”

بيد شبه مُرتجفة، وضع سمّاعة الموبايل على أذنه، فاصفرّ وجهه، وبدتْ علامات الاضطراب تلوح عليه. انسحب الدم من وجهه، وحين أزاح الموبايل عن أذنه، سأله المدير: “شو فيه؟”. أجابه: “سيارة ضربت ابني وهو في المشفى”.

***

اتصل به ليطمئنّ على صحّته، فقد علم أنّه كان في المشفى، فحمد الله، وتابع: “المشكلة في هذا المشفى هي كأنّك في سوق الخضرة، الأصوات العالية، الضجيج، إغلاق الأبواب بشدّة”.

قاطعه: “هل كنت في المشفى الفلاني”؟

أجابه: “نعم”.

قال: “لا تكمل.. لقد اضطررت ذات عام لدخوله إسعافيّاً، وبقيتً ثلاثة أيام لم أعرف النّوم إلاّ خطفاً، وللأسباب ذاتها التي ذكرتَها”.

قاطعه: “يا رجل أنت لا تعرف نفسك، هل أنت في مشفى، أم في ميدان من ميادين المناداةّ!! العلّة في الذين يرافقون المرضى، فهم ينادون بأصوات عالية من غرفة إلى غرفة، ويُحضرون معهم عدّة المتّة، ويجلسون حولها وكأنّهم على بيدر من بيادر القرية”.

قال: “أعتقد أنّ هذه مهمة مديرية الصحّة، لأنّ من مهامها – كما أفترض – حماية راحة المرضى”..

aaalnaem@gmail.com