فرنسا تؤجّج نيران الحرب دون إدراك للمخاطر
هيفاء علي
منذ هزيمتها المخزية خلال الحروب النابليونية، وجدت فرنسا نفسها في موقف صعب لدول محصورة بين قوّتين عظميين. وبعد الحرب العالمية الثانية، عالجت فرنسا هذا الوضع من خلال تشكيل محور مع ألمانيا في أوروبا، وفي موقف مماثل، تكيفت بريطانيا مع دور خاضع من خلال الاعتماد على القوة الأميركية على نطاق عالمي. ولكن فرنسا لم تتخلّ قط عن سعيها لاستعادة مجدها كعالم قوة، وهي مستمرة في العمل هناك. إن معاناة الفرنسيين مفهومة لأن القرون الخمسة من الهيمنة الغربية على النظام العالمي تقترب من نهايتها، وهذا الوضع يحكم على فرنسا بدبلوماسية معلقة على نحو مستمر، تتخللها موجات مفاجئة من النشاط.
انتهت أيام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السعيدة في الدبلوماسية الدولية بحل المحور الفرنسي الألماني في أوروبا مؤخراً، الذي يعود تاريخه إلى معاهدات روما في عام 1957. وفي حين جعلت برلين من الشراكة عبر الأطلسي عقيدتها في شؤون السياسة الخارجية، أصبح ثقل فرنسا قوياً، بينما تراجعت في الشؤون الأوروبية.
سافر ماكرون إلى برلين للقاء المستشار أولاف شولتز، لعقد قمّة عنوانها العريض “مواجهة روسيا وإرسال قوات برية أوروبية إلى أوكرانيا”.
ووفقاً لصحيفة ماريان، التي أجرت مقابلاتٍ مع العديد من الجنود الفرنسيين، فإن الجيش يعتقد أن الحرب في أوكرانيا قد خسرت بالفعل إلى الأبد، وأوردت الصحيفة نقلاً عن أحد كبار الضباط الفرنسيين قوله بسخرية: يجب ألا نخطئ في مواجهة الروس، وإرسال قوات فرنسية إلى الجبهة الأوكرانية سيكون ببساطة “غير معقول”.
في السياق أشارت ناتاشا بولوني، رئيسة تحرير مجلة ماريان، إلى أنه لم يعُد الأمر يتعلق بماكرون أو مواقفه كزعيم صغير رجولي، ولا حتى بفرنسا أو بإضعافها من النخب العمياء وغير المسؤولة، بل المسألة ما إذا كنا سنتفق بشكل جماعي على خوض الحرب مثل السائرين أثناء نومهم، ويتعلق بما إذا كنا على استعداد لإرسال أطفالنا للموت لأن الولايات المتحدة أصرّت على إقامة قواعد على حدود روسيا.
وتساءلت لماذا يفعل ماكرون هذا، ويذهب إلى حدّ تشكيل “تحالف الراغبين” في أوروبا، مشيرة إلى وجود عدة تفسيرات محتملة، بدءاً بموقف ماكرون، الذي يحاول كسب نقاط سياسية بتكلفة أقل، بدافع من الطموحات الشخصية والاحتكاكات داخل أوروبا مع برلين. ولكن حتى وقت قريب، كان ماكرون يؤيّد الحوار مع موسكو. وبالتالي، التصوّر السائد في معظم العواصم الأوروبية، بما في ذلك موسكو، هو أن ماكرون يحاول نقل الأزمة الأوكرانية إلى مستوى جديد من خلال الإعلان علناً عن نشر قوات قتالية غربية ضد روسيا، وهو ما يشكّل تلاعباً سياسياً واضحاً. وعلى المستوى الجيوسياسي، ماكرون الذي دعا منذ وقت ليس ببعيد إلى الحوار مع موسكو وعرض وساطته، لم يتردّد في مناشدة دبلوماسية الاتحاد الأوروبي لتجنّب إذلال موسكو.
وحسب محلل هندي، لا يمكن النظر إلى هذا التناقض المروّع إلا على أنه ناشئ عن التطور غير المواتي للأحداث في سيناريو الأزمة الأوكرانية، حيث لم يعُد احتمال هزيمة روسيا في الحرب ممكناً ولو من بعيد، وحل محله احتمال متزايد بأن السلام لا يمكن تحقيقه في نهاية المطاف إلا بشروط روسيا. بعبارة أخرى، تتغيّر ديناميكيات القوة في أوروبا بشكل كبير، وهو ما يؤثر بطبيعة الحال في طموحات ماكرون في “حكم أوروبا”. ومن ناحية أخرى، شهدت العلاقات الروسية الفرنسية أيضاً مرحلة من المنافسة الشرسة والتنافس، بل حتى المواجهة في عدد من المجالات.
على سبيل المثال، ما قاله وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيغورنيه في مقابلة مع صحيفة لو باريزيان في كانون الثاني من أن انتصار روسيا في أوكرانيا من شأنه أن يؤدّي إلى سيطرة موسكو على 30% من صادرات القمح العالمية، وبالتالي استدامة أحد القطاعات الرئيسية للاقتصاد الوطني الفرنسي باتت على المحك.
واليوم، تعمل الدول الإفريقية على تغيير هيكل واردات الحبوب بسبب اللوائح الفنية التي أدخلها الاتحاد الأوروبي كجزء من برنامجه الأخضر، وبالتالي يضطر المزارعون الفرنسيون إلى مواجهة التكاليف المتزايدة، ناهيك عن الخسارة الوشيكة لحصة السوق الإقليمية لمصلحة روسيا. ويأتي هذا الوضع على رأس التقدم الذي أحرزته روسيا مؤخراً في صادرات الأسلحة إلى القارة الإفريقية. وعلى المستوى السياسي العسكري أيضاً، خسرت فرنسا الأرض أمام روسيا في منطقة الساحل الغنية بالموارد، التي كانت تقليدياً مستعمرتها السابقة وملعبها. والحقيقة هي أن استراتيجيات فرنسا الاستعمارية الجديدة في إفريقيا تتعرّض لانتقادات متزايدة، لكن باريس تفضّل إلقاء اللوم على روسيا.
ووفقاً لأفضل تقاليد الجغرافيا السياسية، بدأت فرنسا في اتخاذ تدابير انتقامية في المناطق الحساسة للمصالح الروسية: أرمينيا، ومولدوفا، وأوكرانيا، حيث يقع الوجود العسكري الروسي في مرمى فرنسا. ومن غير المستغرب أن تكون أوكرانيا هي المنطقة الأكثر استراتيجية حيث يأمل ماكرون في تعزيز الوجود الفرنسي. ومن خلال ذلك، يأمل ماكرون في تعزيز طموحاته القيادية في أوروبا باعتباره الملاح لاستراتيجية السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي في قوس واسع من القارة الإفريقية إلى منطقة ما وراء القوقاز، عبر البحر الأبيض المتوسط، وربما حتى أفغانستان.
كل هذا يحدث على خلفية تاريخية لانسحاب الولايات المتحدة الحتمي من أوروبا، مع احتدام منطقة المحيطين الهندي والهادئ وتحوّل التنافس المحتدم مع الصين إلى عاطفة مستهلكة لواشنطن. وفي الوقت نفسه، بدا الوجود الروسي المهيمن في أوروبا محسوساً بشكل مكثف بعد أن نجحت في ترسيخ مكانتها كقوة عسكرية واقتصادية رائدة في الفضاء الاستراتيجي بين فانكوفر وفلاديفوستوك.
واليوم، تكمن المفارقة في أن الرئيس الروسي في ذلك الوقت، ديمتري ميدفيديف، كان قد اقترح معاهدة أمنية أوروبية ملزمة قانوناً في وقت مبكر من عام 2008، من شأنها تطوير بنية أمنية جديدة في أوروبا، بما في ذلك إصلاح المؤسسات القائمة وإنشاء مؤسسات وأعراف جديدة تنظم العلاقات الأمنية في أوروبا في مساحة جيوسياسية أوسع تمتدّ شرقاً من فانكوفر إلى فلاديفوستوك، ولكن الولايات المتحدة شجّعت الأوروبيين على النظر إلى “مبادرة ميدفيديف” باعتبارها فخاً يهدف إلى إضعاف حلف شمال الأطلسي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا والاتحاد الأوروبي وغيرها من الهيئات الأوروبية، وشجّعتهم على رفض هذه الفكرة الرائعة التي كان من شأنها أن ترسّخ حقبة ما بعد الحرب الباردة في العالم.