ملامح نظام دولي جديد
د . خلف المفتاح
تقوم منظومة التفكير الغربي في رؤيتها للعالم على قاعدة موازين القوى التي تتأسس على أن القوة التي تمتلكها الدولة وتستطيع من خلالها قهر الطرف أو الأطراف الأخرى المنافسة وجعله يتصرّف بما يستجيب لإرادة الطرف القوي الذي يمتلك ويمركز القوّتين الاقتصادية والعسكرية لديه ويحتكرهما، وهذا يستتبع أيضاً القوة التكنولوجية والعلمية والسكانية والجغرافية وقوة التصدير الإعلامي والنفوذ السياسي استطراداً، ولاشك أن قاعدة القوة ونفوذها هي التي حكمت العلاقات بين الامبراطوريات حتى توقيع اتفاقية وتسفاليا عام 1646.
إن منطق القوة يُعمي أحياناً عن رؤية الحقيقة، وربما كان الشعور بفائض القوة دون تقدير وحكمة مدمّراً كما حصل لألمانيا الهتلرية وللعراق زمن حكم صدام حسين.
فالقوة المادية لا تكون الفيصل في الصراعات، ولعل المثال الأفغاني والفيتنامي هو الدليل الحي على ذلك، حيث هزمت أمريكا أقوى دولة في العالم وانتصرت القوة المعنوية وقوة الإرادة والإيمان، وكذلك ما تشهده غزة في معركة طوفان الأقصى، وفي الحالتين هُزم الطرف القوي آخذاً في الاعتبار أن أمريكا هُزمت في فيتنام وهي في حالة صعود، على العكس من وضعها في أفغانستان حيث كانت في حالة هبوط وتراجع على المستوى الدولي في حسابات موازين القوى الصاعدة والمنافسة لها.
لقد جاءت معركة طوفان الأقصى في لحظة تحوّل أو انتقال إلى نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب، وما جرى في أفغانستان وسورية وأوكرانيا وغزة كان عامل تسريع نحو الانتقال إلى نظام دولي جديد، لأن قبضة الولايات المتحدة الأمريكية على المشهد الدولي قد تراخت وضعفت وبدت بعض الدول المحسوبة على الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تتمرّد عليها، كما جرى في منطقتنا العربية وإفريقيا مع بوادر تحوّل في خرائط الصراع وجغرافيته من شرق وغرب إلى شمال وجنوب، ولعل ما جرى في غزة أيقظ شعوب العالم واأعاد روح الستينيات وخطاب حركات التحرّر الذي يؤكد مفهوم هزيمة الامبريالية وانتصار إرادة الشعوب بعد عودة حمّى الاستعمار خلال العقود الثلاثة الماضية، وما تبعها من دور سلبي للنخب الحاكمة في الغرب وما وصلت إليه من فشل.
لقد سقطت في الوقت الحاضر وبعد معركة غزة كل القيم التي ادّعتها الليبرالية الغربية من حقوق إنسان وحق تقرير مصير والإصغاء للرأي العام وقيم الحرية ومفاهيمها المدّعاة، وتعرّى الغرب أخلاقياً وسياسياً أمام شعوبه وشعوب العالم بوقوفه إلى جانب الإجرام الصهيوني الذي يمثل بالمعنى السياسي الأنموذج الغربي الذي عرفه دائماً بأنه جزيرته الديمقراطية في شرق يراه متخلّفاً حضارياً ومستبداً سياسياً؟.
إن رؤية تحليلية للمشهد الدولي تشير إلى بداية تآكل المنظومة الغربية لمصلحة الجنوب والشرق بصعود الصين والهند وإيران وجنوب إفريقيا والبرازيل وقوى أخرى صاعدة مع تعاظم دور مجموعة بريكس، والمهم هنا حالة التسارع في تنامي تلك القوى والانتقال إلى نظام دولي جديد، حيث كان قبل ما جرى في أوكرانيا وسورية وغزة أقل حركة وديناميكية، وبدأ الصنم الغربي بالتآكل، فالعالم يتغيّر وبسرعة باتجاه الشرق والجنوب آخذاً في الاعتبار أن 70 بالمائة من سكان العالم يعيشون في قارة آسيا وأغلب سكانها من فئة الشباب، في حين يعاني الغرب من الشيخوخة وتراجع الاقتصاد في الإنتاج والاستهلاك معاً، وفي منظومة لا تقدّس إلا الإنتاج والاستهلاك عند الإنسان بوصفه وفقهم كائناً بيولوجياً، ومع الأسف إضافة إلى أن حصة آسيا في التجارة العالمية تزيد على النصف وفيها ست دول نووية من أصل تسعة في العالم، ما يعني في المحصلة وتحليل الناتج أن الغرب بضفتيه يعيش حالة تراجع عام في إطار موازين القوى الدولية، وهذه ليست استنتاجاتنا بل رؤية مفكرين كبار في الغرب، منهم ايمانويل تود الذي توقّع نهاية وسقوط النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي في عام 1976، في كتابه “الانهيار الأخير”، وأحال ذلك إلى منظومته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وقد نشر تود منذ فترة قريبة كتاباً بعنوان “أفول الغرب” يقول فيه: إن الثقافة الدينية والأخلاقية التي هي من أهم أسس التقدم الغربي والتي قامت على قيم الأسرة والفضيلة والعدالة والأخوة قد انعدمت، وقد وصلت أوروبا والغرب إلى المرحلة التي سمّاها الصفرية المتمثلة بإقرار زواج المثليين، ما يعني نهاية المنظومة الأخلاقية ووأدها، وخلص إلى أن الغرب يعيش لحظة فاصلة وحاسمة في نهاياته أي انعدام القوة الدافعة لبناء الحضارة.