الدراما السورية وزمن الـ”أكشن”
حمص ـ آصف ابراهيم
انطوت مرحلة عنتريات البيئة الشامية كموضة في مسيرة الدراما السورية، وبدأت مرحلة جديدة عنوانها الـ”الاكشن”، هذه الموضة التي تسللت إلى صناعة الدراما السورية عبر سطوع نجم مسلسلات تركية مدبلجة أمثال “وادي الذئاب” الشهير بأجزائه المتعددة، وغيره، معززة بتأثيرات الحرب السورية وتداعياتها ومؤثراتها على كل مجالات الحياة.
هي موضة سبقتنا إليها عربياً الدراما التلفزيونية والسينمائية المصرية التي غادرت رومانسيات الحب وكلاسيكيات القصص الحياتية الشعبية البسيطة بتشعباتها وأنماطها المختلفة وبدأت عهداً جديداً تحاكي فيه السينما الأمريكية في اللعب على عقول الشباب لتعزيز وهم البطل الخارق.
والدراما السورية التي سطع نجمها بالتجديد والابتكار أوائل تسعينيات القرن الماضي، بدأت تنحو باتجاه التقليد والاستسهال والتجارة الرابحة من خلال مسايرة المزاج العام للجيل الجديد الباحث عن الإثارة والعنف والبطولات الوهمية، متأثراً بكل مفرزات العصر والثورة التكنولوجية التي أسقطت من حساباتها معظم جماليات الحياة البشرية الروحية، لتسرق الجيل من إنسانيته، وهكذا أخذت الدراما تتخلى عن دورها التثقيفي والتوجيهي لترقص على إيقاع نبض الجيل الصاعد، وتقتفي تبدلات مزاجه، بدلاً من الاشتغال على إعادة تقويم سلوكياته.
فهل تكفي قصة حب هامشية ضمن مسلسل درامي تغوص حكايته في عالم الشر والجريمة والقتل المجاني والجاسوسية لنقول عن هذا المسلسل إنه خلّاق ومستوفي لشرطه الإنساني المؤثر إيجابياً في صيرورة المجتمع؟ الجواب الأكيد أن الحب والمشجاة الميلودرامية بات حضورهما في الدراما العربية عموماً والسورية خصوصاً يقتصر على خطوط درامية هامشية وثانوية ملحقة، لا تعدو كونها مطمطة لزيادة عدد حلقات المسلسل.
ولكي لا نبقى في إطار التعميم دعونا نتوقف عند عدد من الأعمال البارزة في الموسم الحالي ومنها مسلسل “العربجي” تأﻟﻴﻒعثمان جحا ومؤيد النابلسي وﺇﺧﺮاﺝ سيف الدين السبيعي، فقد استوفى في جزئه الأول رسالته الإنسانية وبنائه الدرامي الجمالي، وهدفه التحريضي لرفض الظلم ومقاومة الاستغلال، على الرغم من أن بنائه الدرامي يهادن المحتل العثماني ويتعامل معه كدولة وأمر واقع ويحصر الصراع بين المحتكرين من أبناء البلد وبين العامة المغلوب على أمرهم الذين يقودهم بطل شعبي لا يعدو كونه عربجياً عتالاً يمتلك قدرات ذهنية وجسدية خارقة، متجاهلاً دور العثماني المحتل في حماية المحتكرين المتحكمين بقوت الشعب، ونصرته لهم، لكن العمل في الجزء الثاني يدخل في دوامة الانتقام والانتقام المضاد في حكاية لا نهاية لها، يمكن أن تأخذ المشاهد إلى سياق ممجوج وممل يفتقر إلى الادهاش والتشويق الذي حققه في الجزء الأول ليصبح الحدث عنفاً مجانياً لاهدفاً إيجابياً له.
هذا الكلام ينطبق إلى حد ما على مسلسل “كسر عضم ـ السراديب” ﺇﺧﺮاﺝ كنان اسكندراني وﺗﺄﻟﻴﻒ رفعت الخطيب، الذي حقق نجاحاً كبيراً في جزئه الأول مع المخرجة رشا هشام شربتجي والكاتب علي معين الصالح، أمّا في هذا الجزء فيفتقد العمل إلى أهم عنصر من عناصر الدراما وهو الإثارة والادهاش إلى جانب الإيقاع الهادئ والرصين الذي مكّن العمل في الجزء الأول من شد المشاهد وإقناعه من دون أن يسقط في مستنقع المبالغة أو زيادة جرعة العنف والمطاردة “البوليسية” والقتل، على حساب المعالجة الدرامية الرصينة للفكرة القائمة على تسليط الضوء على جوانب الفساد والجريمة والتهريب والمحسوبيات، التي أخذت حقها بالمعالجة في الجزء الأول.
ولا نعفي مسلسل “ولاد بديعة” إخراج رشا شربتجي، وتأليف علي وجيه ويامن الحجلي، من سمة البحث عن الـ”اكشن” لخلق نوع من الإثارة عبر الاستسهال في ارتكاب فعل القتل وتغييب القانون أمام تلك الجرائم، ليشيع العمل فكرة الفوضى اللاأخلاقية في بيئة اجتماعية يشتعل فيها صراع المصلحة والانتقام من أجل القوة والمال، ويتخفى الحب في زوايا معتمة، لا دور له في تذليل قسوة الحياة وانقشاع ظلمتها الحالكة التي يدور المسلسل في فلكها.
ولو تطرقنا إلى مسلسل “تاج” للمخرج سامر برقاوي والكاتب عمر أبو سعدة، في تعاونهم مع الفنان تيم حسن الذي يصرّ في معظم أعماله، على حمل ثقل العمل كاملاً، وبناء تفاصيل على مقاس رؤيته، فإننا لا نجد فيه سوى لغة بصرية سينمائية مجمعة من مسلسل “شارع شيكاغو” بعض تفاصيله ومن عمله السابق “عاصي الزند” تفاصيل آخرى، وبطولة فردية يقودها “تاج” الشاب الخارق بقوته وقدرته على التخفي والتمويه واللعب مع أجهزة المخابرات الغربية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية أواخر زمن الانتداب الفرنسي لسورية، ليقدم لنا هذا العمل مع غيره مما سبق ذكره صورة وأنموذجاً للمتغيرات التي بدأت الدراما السورية تخوض في غمارها مرحلة جديدة بعيدة عن الميلودراما وحكايات الحب والشقاء والمعاصرة، وتهذيب النفوس وأنماط السلوك.