هل يكون هجوم “كروكوس” شرارة حرب عالمية ثالثة؟
طلال ياسر الزعبي
ليس غريباً أن تتم صناعة سيناريو معيّن للتفجير الذي وقع في مجمع “كروكوس سيتي هول” الروسي، فالأنموذج المتّبع عادة في صناعة الأحداث على الطريقة الأمريكية الهوليودية المعهودة بات واضحاً ولا يحتاج إلى مزيد الشرح، إذ يقوم الفيلم عادة على مجموعة من الأمور، من بينها اختيار الأشخاص الذين يقومون بدور البطولة، وهؤلاء عادة يتم اختيارهم بعناية فائقة، وبما يتناسب مع الأسلوب الذي سيتم به لاحقاً توجيه الحدث، بعد أن يتم تلقينهم بشكل ممنهج الدور الذي سيقومون به، ولا مجال مطلقاً هنا لاختيارهم ممّن يستطيعون التفكير في تفاصيل المشهد أو عواقبه، فهم يؤدّونه مقابل الحصول على الأجر المادي المخصّص لهم، بينما يعمل المشغّلون، المخرجون، على صناعة الحبكة “الدعاية” بالطريقة التي تناسبهم، وهذا يقتضي طبعاً التسويق بعناية تامة إعلامياً للحدث، حيث تتولّى مجموعة من وسائل الإعلام تسويق المشهد بالطريقة التي تم إملاؤها مسبقاً من المشغّل، وهذا بالضبط ما قامت به وسائل الإعلام الغربية قبل أن تقوم السلطات الروسية التي حقّقت بالهجوم بتشخيصه وتحديد دوافعه، إذ هي على حد تعبيرها ما زالت في طور التحقيق.
هذه الدعاية التي قامت بها وسائل الإعلام الغربية بنسبة الهجوم الذي وقع في العاصمة الروسية موسكو إلى تنظيم “داعش” الإرهابي، لا بد أن تجد جوقة من المسؤولين الغربيين تدعمها بالتصريحات حتى تستقرّ في أذهان الطرف المستهدف في هذه الفرضية، حتى لو ظهرت فيما بعد دلائل تؤكد أن الطرف المتهم بالعملية ليس هو المعنيَّ بها أساساً، وذلك أن هذا الطرف أصلاً ليس قادراً على إنتاج الدعاية بنفسه، بل هناك دائماً من يكفيه عناء البحث في طريقة الدعاية، وهو المشغل الأساسي الذي يقع على عاتقه إخراج المشهد بالطريقة التي تناسبه أو تتماشى مع مخططه.
وعلى أي حال، ظهر فيما بعد وبالدليل القاطع أن المصطلحات المستخدمة في التسجيل المنسوب إلى الجهة التي تبنّت الهجوم تختلف كثيراً عن الأسلوب الذي تستخدمه “داعش” أو مشغّلها عادة في التسويق، الأمر الذي يثير مجموعة من التساؤلات حول الغاية من ذلك، فلماذا يتم توجيه الأمر نحو “داعش” في هذا التوقيت بالذات.
واضح أن الأشخاص الذين تم استخدامهم في الهجوم الأخير يحملون جميعاً جنسياتٍ روسية، وينتمون إلى جمهوريات إسلامية تابعة للاتحاد الروسي، وممّا لا شك فيه أن روسيا دولة متعدّدة الأديان والثقافات والأعراق، وبشكّل المسلمون فيها نسبة كبيرة من السكان، وبالتالي يصبح هذا العمل الإجرامي المرسوم بعناية ذا معنى في هذا التوقيت بالذات، حيث كان مخطّطاً له أن يتم بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية الروسية مباشرة، ولكن لسبب ما تم تأجيله، وهو ربما يكون استحالة القيام به في ظل استنفار أجهزة الأمن الروسية في فترة الانتخابات، ولكن المشغل طبعاً لم يشأ أن يلغي الهجوم، لكي يستفيد من المهاجمين فبل انكشاف أمرهم بطريقة أو بأخرى، فحافظ على السيناريو بعد أن خسر التوقيت.
وبعد هذا كله، لا بأس إذن في أن يتواطأ الغرب الجماعي على إدانة الهجوم الإرهابي الذي حدث بعد وصمه بالمميت وليس بالإرهابي، وذلك حتى يعطي المشهد بعداً آخر هو البعد التابع لحالة الاتحاد الروسي الداخلية، بمعنى أن هناك في جمهوريات الاتحاد الروسي المسلمة معارضة كبيرة للبقاء في هذا الاتحاد، تمثلت في قيام بعض الناقمين على الحكومة باختيار فترة الانتخابات للقيام بالعملية، أي أن هؤلاء جميعاً يرفضون وصول فلاديمير بوتين مرة أخرى إلى كرسي الرئاسة، فالأمر متعلق بالدرجة الأولى بشخص الرجل الذي سيتولى حكم روسيا بعد الانتخابات، وهذا الأمر يتقاطع فيه الإرهابيون مع تصريحات المسؤولين الغربيين دون استثناء الذين حاولوا التصويب على الانتخابات الروسية وكرهوا بالطبع بقاء بوتين في السلطة، وهو الذي يستمرّ في قيادة العالم وليس فقط روسيا، إلى أنموذج جديد من تعدّدية الأقطاب سيجعل الغرب الجماعي بعد نحو قرن من قيادة العالم عنصراً هامشياً في النظام الجديد الذي ستكون فيه الغلبة للأكثرية الجنوبية على حساب الأقلية الغربية.
هنا يظهر جلياً الإصرار الغربي على إلباس الهجوم لبوس ردّ الفعل الصادر من مسلمي روسيا على الحاكم الأرثوذكسي القوي في روسيا، بمعنى أن هناك من يحاول صناعة مشهد ثورة برتقالية جديدة في روسيا انطلاقاً من صناعة فتنة بين أكبر مكوّنين عرقيين ودينيين فيها، هما الأرثوذوكس والإسلام، والشطرين الأوروبي والآسيوي من روسيا، بعد أن عجز عن الولوج إلى الداخل الروسي من خلال ثلاث سنوات من الحرب بالوكالة والعقوبات.
وإذا كانت تصريحات المسؤولين الروس، وعلى رأسهم الرئيس فلاديمير بوتين، تصبّ في خانة البحث عن الطرف الرئيسي الذي يقف وراء الهجوم، بمعنى أنها تفترض وقوف جهاز استخبارات غربي وراءه، حيث قال: إن “جميع مرتكبي هذه الجريمة ومنظميها ورعاتها سينالون العقاب العادل والحتمي”، لافتاً إلى أنه “يجب معرفة سبب محاولة الإرهابيين الهروب إلى أوكرانيا ومن كان ينتظرهم هناك، كما أن الولايات المتحدة تحاول إقناع الجميع بأن أوكرانيا ليست متورّطة في الهجوم”، فإن التصريحات الصادرة عن فلاديمير زيلنسكي حول الهجوم دعمت هذه الفرضية، حيث فضحت تصريحاته بشكل لا لُبس فيه هذا الجانب، وأكّدت ضلوع جهاز استخبارات وراءه، وليس بالضرورة أن يكون هذا الطرف هو الاستخبارات الأوكرانية بالضبط، لأنها لا تملك القدرة على هذا التخطيط المحكم، وإن كانت أداة رئيسة في التنفيذ، وهذا ما دفع المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا إلى التعقيب عليه بقولها: لا توجد لعنة واحدة يمكن أن تدمّر زيلينسكي بقوة كتصريحاته التي يتهم فيها روسيا بهجوم كروكوس الإرهابي.
وبالمحصلة، يظهر بشكل واضح أن أدوات الجريمة والأسلوب الذي تم تنفيذها به، تم اختيارهما بعناية، وهذا الأمر بالفعل لا يستطيع القيام به إلا جهاز استخبارات محترف، وهو ما تؤكده اعترافات المتهمين الذين حاولوا الهروب إلى أوكرانيا واستطاع الأمن الروسي الإمساك بهم في طريق عودتهم، حيث أقرّوا بتلقيهم مبالغ مالية مقابل ذلك، بمعنى أن العملية مأجورة وليس لها دافع ذاتي لدى المجرمين، وبالتالي فإن إصرار روسيا على كشف الجهة الخارجية التي خطّطت لهذا الهجوم سيقود إلى نتائج أخرى، أهمّها محاسبة هذه الجهة بشكل مباشر، وفقاً لتصريح نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري مدفيديف، وهذا سيقتضي طبعاً نشوب حرب مباشرة مع الدولة أو الدول الغربية التي خطّطت له، وبالتالي ربما تؤكد التصريحات الغربية التي ستصدر لاحقاً جنسية الجهة التي وقفت وراء الهجوم، وهو ما يجعل العالم كلّه الآن مترقباً الردّ الروسي القاتل على القاتل الحقيقي الذي يجب أن يُقتل كما أكد جميع المسؤولين الروس دون استثناء، وهذا ما يدفع المسؤولين الغربيين إلى التخبّط في تصريحاتهم محاولين تبرئة أنفسهم حتى قبل أن توجّه موسكو أصبع الاتهام إليهم، فهل تكون الحادثة شرارة حرب عالمية ثالثة؟.