ثقافةصحيفة البعث

المعجم التاريخي للّغة العربية إنجاز القرن الذي انتظره اللغويون العرب

أمينة عباس

لم يكن الاحتفاء بالمعجم التاريخي للّغة العربية، الذي أقامه مساء أمس، في مكتبة الأسد، مجمع اللغة العربية بدمشق بالتعاون مع مجمع اللغة العربية بالشارقة برعاية وزير التعليم العالي والبحث العلمي الدكتور بسام إبراهيم، وحضره عدد كبير من الشخصيات الرسمية والفكرية واللغوية من سورية ومختلف الدول العربية إلا تأكيداً على أهمية هذا المنجز غير المسبوق في اللغة العربية والذي ينهي التقصير التاريخي بحقّ لغتنا التي افتقدت نتيجة محاولات لم يُكتب لها النجاح معجماً مرجعياً يتتبع تطور مفرداتها ويُؤرّخُ لجذور ألفاظِها عبر الـ 18 قرناً الماضية.

من هنا أجمعت الكلمات التي ألقيت فيه على أن إنجاز هذا المشروع الذي يشرف على إصداره اتحاد المجامع اللغوية العربية تطلّب جهوداً كبيرة، علميّة ومادّيّة، وما كان له أن يرى النور لولا تبني واهتمام ورعاية الدكتور ‎سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة.

أول إنجاز علمي عربي جماعي

وبيَّن وزير التعليم العالي والبحث العلمي الدكتور بسام إبراهيم أن مجمع اللغة العربية بدمشق بذل جهوداً كبيرة في إعلاء شأن لغتنا العربية، إيماناً من أعضائه بلغتنا العربية أساس قوميتنا وروح أمتنا وجامعة شملنا وموحدة كلمتنا، وهي اللغة الرسمية في دساتير الدول العربية كلها، والسادسة المعتمدة في الأمم المتحدة تقديراً لعراقتها ومكانتها ومسيرتها في الحضارة البشرية، مشيراً إلى إسهام وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في سورية من خلال عدد من أساتذتها في الكليات الجامعية بالتعاون مع مجمع اللغة العربية في وضع المصطلحات بالعربية وتأليف الكتب الجامعية معتمدة على المصطلحات العلمية التي وضعها المجمع، مؤكداً أن هؤلاء الأساتذة كانوا مثالاً وقدوة في حرصهم على سلامة اللغة العربية حتى غدت سورية مضرب المثل على الصعيد العربي في تعليم جميع مواد المعرفة باللغة العربية.

في حين أكّد رئيس اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية الدكتور حسن الشافعي عبر تطبيق “الزوم” أن إعداد المعجم التاريخي للّغة العربية هو العمل الحضاري العلمي الذي أنجز بالنسبة لسائر اللغات العالمية في عالمنا وفكرنا المعاصر، وهو عمل قومي بامتياز، منوهاً بأهمية أن تشحذ له الإمكانات العلمية والفكرية والمادية على مستوى قومي من دون أن ينفرد به بلد أو مجمع دون آخر، داعياً إلى العمل المتواصل من أجل إتمامه خلال العام القادم لتكتمل أجزاؤه.

ورأى رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق الدكتور محمود السيد أن ما يجعل هذا المعجم مختلفاً عن سائر المعاجم الأخرى من حيث سمة التأريخ للّغة العربية أنه مصدر لدراسات في الدلالات والألفاظ والتراكيب والدراسات المهتمة بإغناء اللغة وزيادة رصيدها، ويفسح المجال لإجراء المزيد من البحوث والدراسات، موضحاً أن المعجم التاريخي للّغة العربية جمع كلمات اللغة وصيغها وتراكيبها من منابعها الحية في جميع العصور وفي ميادين المعرفة كافة، متتبعاً الأصول اللغوية العربية في النقوش العربية القديمة ولغات الممالك القديمة في بلاد الشام والعراق وغيرهما كالأكادية والآرامية والسريانية.

أما الأمين العام لمجمع اللغة العربية في الشارقة الدكتور محمد صافي المستغانمي فشرح في كلمته التي ألقاها عبر تطبيق “الزوم” التعاون بين مجمع الشارقة ونظرائه في المجامع العربية في سبيل إنجاز هذا المشروع وخطوات تنفيذه من تدريب العاملين فيه إلى تشكيل لجنتين علمية وتنفيذية تضم كبار الخبراء لوضع خطة محكمة لإطلاقه ليكون معجم المعاجم ومرجع المراجع للأكاديميين والباحثين واللغويين، مشيراً إلى أن الأجزاء المطبوعة من المعجم تشمل حروف العربية من الألف للضاد، وما تبقّى هو قيد الإنجاز، ولم يخفِ المستغانمي أن التحديات كانت كثيرة، وأهمها التمويل، لكن مبادرة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي الذي كان يحلم منذ وقت مبكر بإصداره جعل الحلم الذي كان يؤرق مجامع اللغة العربية يتحقق بتمويله ورعايته ومتابعته حتى صدوره.

وبيَّن الأمين العام لاتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية الدكتور عبد الحميد مدكور أن هذا المعجم سيمثل عند اكتماله درة المجامع اللغوية، قديمها وحديثها، وهو يحقق جمعاً كبيراً لم تشهد اللغة العربية له مثيلاً من قبل، وسيكون مرجعية كبرى في مختلف صنوف الإبداع على مستوى العالم.

كما عدّ المدير العلمي للمعجم التاريخي للغة العربية الدكتور مأمون وجيه أن المعجم إنجاز القرن الذي انتظره اللغويون والمثقفون العرب بعد تعثّر محاولات عدة في هذا المجال قبل أن يتبنى المبادرة الدكتور سلطان بن محمد القاسمي الذي رعى هذا المشروع ودعمه بشتى السبل ليرى النور بعد جهود متواصلة وعمل جماعي خلاق شارك بصناعته جميع المجامع العربية ليكون أول إنجاز علمي عربي جماعي، أبرز ما يميزه أنه يؤرخ لقصة اللغة ويبين شجرة النسب اللغوية لكل كلمة وكيف تفرعت الأصول وتطورت وأنجبت أجيالاً من الألفاظ والدلالات عبر العصور، ليقدم سجلاً تاريخياً دقيقاً لألفاظ العربية وتراكيبها، بالإضافة إلى تفرده بجمع لغوي جديد للّغة العربية، معتمداً على اللغة الحية المستعملة الموثقة في مصادرها المدونة منذ بواكير التاريخ.

بين الواقع والمأمول

تضمَّن الاحتفال عقد ندوة فكرية بعنوان “المعجم التاريخي للّغة العربية بين الواقع والمأمول” أدارها الدكتور محمود السيد وشارك فيها الدكتور غيث زرزور من مجمع الشارقة والدكتور عبد الناصر عساف من مجمع دمشق وهما من الذين شاركوا في إنجاز المعجم، وقد أجمعا على الأهمية الكبيرة لهذا المعجم الذي شارك في إعداده كما جاء في مشاركة الدكتور عبد الناصر عساف 500 باحث ولغوي وأكاديمي من 16 مجمعاً لغوياً، وصدر منه حتى الآن 67 مجلداً تشمل آلاف البحوث والدراسات المتعلقة باللغة والنحو والبلاغة والأدب والفكر والفنون وشؤون الاجتماع وجوانب الحضارة وسائر مَواطن الإبداع العلمي التي شهدتها اللغة العربية، مبيناً أن أهم مزاياه وأولها سرعة الإنجاز الفائقة، من دون أن ينكر وجود هفوات، لكن مسعى لجنة المراجعة والتدقيق الجاد كفيل بازالتها، والمأمول فيما تبقّى منه من أجزاء أو في طبعته الثانية تزويده بالصور والرسوم المناسبة التي تساعد على توضيح بعض وجوه العمل فيه، وكذلك العمل على اعتماد أوثق المصادر، مشيراً إلى أنه ثمرة عمل جماعي، وأن المناسب لتحقيق أعلى ما يمكن من التنسيق توحيد طريقة العمل في التزام خطة المعجم وما يجب من وجوه الخدمة والإجراءات العلمية والمنهجية اللغوية لئلا يكون التفاوت في الإنجاز والدقة والجودة والاتقان إلا في أضيق  الحدود، مشيراً إلى أنه معجم لغوي عام، والواجب التزام حدوده الموضوعية وتوسيع دائرة أغراضه والعناية بالفقرات التي تعنى باللغات السامية والنقوش القديمة وإغناء النسخة الإلكترونية منه بمزيد من الشواهد والأمثلة، وهذا ما تعذّر في النسخة الورقية لضخامته، ورأى أنه من الواجب أن يصدر الجزء الأول بالمقدمة المناسبة التي توضح المنهج الذي جرى عليه إعداده وذكر المشاركين فيه، مع تأكيده أنه من الأعمال العلمية واللغوية والمعرفية المهمة التي تسهم في خدمة اللغة العربية ونشرها وتعليمها.

ما بعْد المعجم التاريخي

وبيّن الدكتور غيث زرزور في مشاركته أن العمل لن يتوقف عند إنجاز المعجم التّاريخي، وهو وإن كان معجماً لفظياً يذْكر اللَّفظ ويبحث عن معناه، لكنه سيبرز لنا أفكاراً موضوعيّة كثيرة بعد أن استطاع العاملون فيه تسجيل عناوين كثيرة لمواضيع وأبحاث مهمَّة ستغني العربيّة وتسهم فِي خدمتها، بالإضافة إلى تسجيل الملاحظات على المصادر من الكتب والدواوينِ التي لم يهيأ لها من يخرجها على أحسن حال، موضحاً أن المعجم مرجع يثبت الكثير من الأحداث التاريخية وهو متاح عبر الشّابكة وسيكون مرجعاً شائقاً لطلاب العلم على اختلاف اختصاصاتهم، معترفاً بأنّ الجهد الجبار المبذول فيه لا يعدو أن يكون عملاً بشرياً ليس له عصمة، لذلك نحن بحاجة إلى الجرأة في نقد الذّات ومراجعة النفس من أجل الإصلاح والتنقيح، متيقناً أن أهل العربيّة سيسهمون في هذه العمليّة للارتقاء بالعمل، ومشاريع خدمة اللغة العربيّة لن تتوقّف، فالجهود مستمرة على مشاريع جديدة تغني العربية، والدليل برأيه أن مجمع اللغة العربية في الشارقة وهو يخوض المرحلة الأخيرة من إنجاز هذا المشروع يتلقى مقترحات ما بعد المعجم التاريخي.

حضر الحفل والندوة وزيرة الثقافة الدكتورة لبانة مشوح ووزير التربية الدكتور محمد عامر مارديني والمستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية الدكتورة بثينة شعبان وأمين فرع دمشق لحزب البعث العربي الاشتراكي حسام السمان وعدد من رؤساء الجامعات الحكومية والخاصة وعدد من السفراء وبعض من ممثلي مجمع اللغة العربية في الشارقة وأعضاء من مجمع اللغة العربية بدمشق وحشد من المفكرين والمثقفين والمهتمين.