العوديسا..!
حسن حميد
دائماً..
وكلما نظرتُ في الحرب الطروادية، أقف عند إسبارطة التي عاش أهلها من أجل تقديس القوة وعبادتها، والاعتماد عليها والتفاخر بها، والاستناد إليها في كلّ شأن، صغيراً كان أو كبيراً، لأنّ فكرة امتلاك القوة كانت قارّة في كلّ بيت اسبارطي، ولأن القوة كانت كتاب كلّ بيت، والاعتقاد بأنّ ما من شيء يحمي الإنسان والمجتمع والأحلام سوى القوةّّّّّ.. لا العلم، ولا القيم، ولا الثقافة، ولا الفنون، ولا العقائد، قادرة على أن تكون الأسوار المدافعة أو الدروع الحامية من الضربات والشرور كلّها، كي يشعر الإنسان والمجتمع معاً بالأمان، ولكي تصير الأحلام واقعاً يعاش.
كاسندرا، وهي إحدى بنات الملك بريام، كانت عرّافة مشهورة، وامرأة جميلة جداً، أحبها أبوللو حتى أُغرم بها، فوهبها ما لم يهبه لأحد غيرها، وهو قوة معرفة المستقبل، فصارت بارعة جداً في قراءة المستقبل، وقد فرح أبوللو بها، وانتظرها لكي تبادله المحبة، لكنها لم تحبّه، وهذا ما جعله يغضب منها، لذلك حاول أن ينتزع منها ما أعطاها إياه، أعني أن ينتزع قوة معرفة المستقبل، لكنه لم يستطع لأنّ ما يعطيه الإله لا يسترجع، لكن غضب أبوللو تحوّل إلى واقعة أشد إيلاماً من استرجاع قدرة كاسندرا على معرفة المستقبل، فقد جعل كلّ من يستمع اليها لا يصدّقها، وهذا ما سبب لها حزناً عظيماً، فهي تحبّ بلادها طروادة، وتعرف أنّ مقاتلي اسبارطة سيدهمونها ويخربونها، ويجعلونها كومة رماد، لذلك أخبرت كبار القوم فيها، لكنهم لم يصدقوها، ومع أن الحرب الطروادية استمرت عشر سنوات كان فيها الكثير من الأهوال والأحزان والدروس والعبر، لكن حكام طروادة لم يعيدوا النظر في كلامها، ولم يصدقوها على الرغم من أنها كلام أخبرتهم بمصارع الأبطال واحداً واحداً، وقبل أن تحذفهم يدُ الحرب من الحياة، مثلما لم يصدقوها حين أخبرتهم بحيل الحرب، وفي مقدمتها “حصان طروادة”.
دائماً كانت تقول للطرواديين سيحدث كذا، وكذا، وعليكم اليقظة والفطنة، وإن قادة أسبارطة سيفعلون كذا وكذا، وعليكم الحذر والانتباه، ولكنهم لم يصدّقوها، لقد أخبرتهم ليلاً بأنّ مقاتلي اسبارطةيختبؤون في الحصان الخشبي الضخم، فلم يلتفت أحد منهم لكلامها، وكانت تطوف في البيوت لتخبر الناس بما سيحدث، لكن ما من أحد صدقها. كان قدرها أن تعرف بالكارثة التي سيتسببها حصان طروادة قبل أن تحدث، وما كان لها القدرة على أن تتجنبها أو تجعل قومها يتجنبونها، لكنها وبعد أن حدث ما حدث، وصارت طروادة كومة رماد، طلبت من بوسيدون، إله البحار، أن ينتقم من الاسبارطيين وهم يعودون عبر البحر، فأجابها وحقق لها رغبته، فثار البحر غضباً وهاج، وعصف بالسفن الاسبارطية حتى جعلها كائنات من ورق مرّة، وكائنات حجرية راحت تغرق مرّة تلو المرّة، وبذلك لاقى قادة اسبارطة مصائر مختلفة، منها الموت قتلاً، والموت غرقاً، والموت قهراً، وأفسدت عليهم انتصارهم الذي نسب اليهم بمفاعيل القوة والخديعة حين جعلته مُرّاً علقماً.
أوديسيوس، بطل الأوذيسة، هو من يعنيني هنا، فقد عانى مرارة العودة إلى بلاده ايثاكا، وامحت العقبات التي واجهها حلاوة الانتصار والظفر على الطرواديين، لأنه بقي عشر سنوات تائهاً في البحر.. ولم يصل إلى بلاده، ولا إلى زوجته، بينلوبي، التي انتظرت عودته عشرين سنة، عشر سنوات حرب، وعشر سنوات عودة، ولا لابنه تليماك الذي غدا شاباً؛ وقد تعرض خلال سنوات العودة المريرة إلى إغراءات كثيرة كادت تحول بينه وبين عودته، لكن إصراره كان أقوى من كلّ الاغراءات والمعوقات، وكان شوقه إلى زوجته (التي تمثل البلاد والمكان والسيادة والشعب) كبيراً جداً، وشوقه إلى ابنه تلماك (الذي يمثل المستقبل) كبيراً جداً أيضاً، ولذلك صبر على الأذى والمكاره، وتخلّص من الشرور، ومن السّحر الأسود والإغراءات المغوية باستذكار مفردات ثلاث وما فيها من المعاني (ايثاكا/ الوطن، والزوجة/الأمان، والابن/ المستقبل).
الآن، أذكر الأوذيسة وأوديسيوس، وطريق العودة عبر البحر إلى البلاد الحلم والمكابدات الكثيرة، والمشاق الهائلة،وعدم القنوط أو الانحناء لأيّ قوة، لكي أؤكد قناعتي المستلّة من قناعة أهلي الفلسطينيين، وهم يواجهون طغيان القوة وظلموتها الرهيب، بأن البحر طريق عودة للوطن، وليس طريق هجرة أو تشرد مهما كثرت الحيل والأفخاخ والأشراك المنصوبة في الجزر البحرية الجميلة، ومهما تعددت صور المعوقات والقوة الباطشة، وأساليب السحر الأسود وشروره الظّانة بأن التهلكة أو التوهان هما الخاتمة. أبداً، المالات والخواتيم هي العودة المحتومة للبلاد. لقد تعرض أوديسيوس للإغواء للبقاء في الجزر الجميلة، وأن يصير ملكاً فيها، ولكنه لم يبق؛ وقد حاولت السيرنات، هؤلاء النساء الجميلات العازفات المغنيات المغويات السّاحرات، استقطابه، ولكنهن أخفقن؛ فالعودة إلى الوطن أغلى من كلّ جميل وأغنى من كلّ سحر، وأكثر طيباً من كلّ مشتهى، فالعودة ليست رحلة أو متعة، بل هي يقين وعقيدة!
Hasanhamid55@yahoo.com