“الرّواية الجديدة”.. ملامح وإرهاصات ورهانات
نجوى صليبه
من حسن حظ الرّواية السّورية أنّ كثيراً من الرّاغبين بدخول الوسط الثّقافي لا يتمتّعون ببال طويل ولا يتحلّون بالصّبر، وإلّا لكان عدد المتطفلين عليها أكثر منهم على الشّعر، ولكنّا، اليوم، بصدد الحديث عن أشكال أخرى للرّواية، لا الحديث عن تطوّر الرّواية السّورية والتغيّرات التي طرأت عليها، ولاسيّما خلال سنوات الحرب، تقول القاصّة والرّوائية سوسن رضوان: “من المؤكّد أنّ جعاب الحرب تمتلئ بموتٍ حقيقي، ما يجعل الكاتب يعبّر عن الآلام والمآسي بقلمٍ مخنوقٍ بدمٍ وفقدٍ، فالسّرد في زمن الحرب يشبه تلاطم الأمواج في محيطٍ يمتلئ بالحيتان، والوصول إلى برّ الأمان شبه محال، فالجاني شخصية رئيسية في الرّواية، كذلك المجني عليه هو صاحب الفصل المأساوي فيها، وهناك النّاجون من الحرب يتربعون على كرسيّ قريبٍ يوثّقون المشاهد التي تحطّمت فيها المآسي على شواطئ بلّلها دمٌ بريء”، مضيفةً: “السّرد في زمن الحرب يجعل الكاتب يعيش الأزمان مجتمعةً والحالات التي تتغيّر في كلّ لحظة على الرّغم من أنّ الأديب ليس قائداً يحمل القدرة على التّغيير أو التّأثير في المشهد المتحرّك إلى العدم، فأدواته تقوم على الرّصد والتّوصيف عن بعدٍ فقط من خلال الوقوف على أطلالٍ وخراب ولقاءات قد سجلت مع أحياء ناجين من مجازر حفرت مساراتها في ذاكرة الشّعوب، ولا يطمع الكاتب من خلال هذا السّرد بتقديم تفاصيل تاريخية وحضارات، لكنّه يجد مسوّغات تُبقي ما يكتب عنه ماثلاً للأجيال لكي لا تنسى، ومن خلال سرده يشرح أبعاد الصّراعات وما وصلت إليه من نتائج، فيثبتُ الحدث في وعي الجماعة لتوثيقه وتسجيله، فالكاتب يفخم الحالة ويزيد من حجمها ليفتح أفقاً على الجانب الحيوي من الصّراع”.
أمّا التّطوّرات والتّغيرات التي طرأت على السّرد فهي كما يوضّحها الأديب نذير جعفر بقوله: “تحاول تجارب الجيل الحاضر في الرّواية الجديدة الخروج عن وصاية المنجز السّردي السّابق بتنويعاتها وخطاباتها الفنيّة والإيديولوجية المتباينة، متجاوزةً التّرسيمات النّقدية التي حاولت تأطير الرّواية وتحديد التّخوم التي تفصلها عن بقية الأجناس الأدبية والفنيّة مثل الشّعر والسّينما والمسرح والتّشكيل، وممّا يلاحظ في الإرهاصات الأولى للرّواية السّورية الجديدة ابتعادها عن النّمطية وتحطيمها لمفهوم الشّخصيّة النّموذج ـ البطل، وانحيازها إلى التّجربة الذّاتية عبر تشابكها مع مصائر الآخرين، وانفتاحها على المسكوت عنه اجتماعياً وسياسياً، وجرأتها غير المعتادة في مقاربة “تابو” الجنس والدّين والسّياسة، والدّخول إلى الأماكن المغلقة والمهمّشة، والتحرّر من سطوة الرّقابة بكلّ أنواعها، مستغلّةً فرص النّشر الممكنة في دول مختلفة، والفضاء العنكبوتي المعولم الذي يتيح التّدوين من دون قيد أو شرط، كما يُلاحظ تقدّم سرد الأقليات الإثنية والمذهبية، والإيغال في التّجريب فنيّاً إلى مداه الأبعد على مستوى اللغة من حيث شاعريتها وغنائيتها، واستثمار تقنيات السّرد الزّمني المتقطّع عبر الاستباق، والاسترجاع، والرسائل، واليوميات، والمذكّرات، والمقبوسات التّناصيّة مع التّراث العربي والإنساني، وبرزت نزعة استلهام الماضي البعيد والقريب والتّعامل معه بوصفه الحاضر المستمر الذي يلقي بثقله على مصائر الشّخصيّات واختياراتها، واستمرت نزعة استلهام السّيرة النّصيّة و”تذويت” السّرد، وظهر ما يسمّى بـ”رواية السّجن” في السّرد النُّسوي بوصفها تجربة جديدة تقارب الممنوع وتقتحم العالم الدّاخلي، كاشفةً عن آليات القمع والكبت الجنسي وتجلّياته على مستوى السّلوك وما يسبّبه من ازدواجية مرضية”.
ولم تكن هذه الإرهاصات والمتغيّرات غائبةً عن السّرد النّقدي، يقول النّاقد أحمد هلال: “لا شكّ في أنّ مقاربة الفضاء السّردي بوصفه الصّورة المتخيّلة التي من شأنها أن تكشف تلك الأبعاد الثّاوية على غير مستوى جماليّ وشعريّ وثقافيّ، وهذه الأبعاد في مستوى السّرد النّقدي المواكب للسّرديّات خصوصاً سيحيلنا إلى تعالقات أو مفرقات بين الفضاء والمكان، وبعيداً عن الالتباس بينهما سيكون الفضاء بوصفه المجال لإنجاز الرّؤيا الإبداعية كما حركة الشّخصيات داخل العمل السّردي وسيرورة الأحداث وطبيعة الزّمن الذي يتحكّم فيه، فهل يخضع هذا الفضاء لمتغيرات أم سيظلّ ثابتاً إبداعياً؟ يمكن ملاحظة وبانتباه شديد أنّ ثمّة العديد من المتغيّرات قد حكمت الأفضية السّردية والرّوائية من تحوّلات دلالية ومجازية تمظهرت في أشكال الرّؤيا التي يتوسّلها المبدعون، وعلى مستوى الرّواية السّورية ومشهدها الرّاهن ثمّة تحوّلات عميقة أسهمت في موضعة، وجلّ هذه الرّوايات في حيّز من التّنوّع والتّعدد، وأصبح ذلك طابعها المميز، ومنها على سبيل المثال روايات أدب الحرب والنّزوع إلى تأثيث المكان، فمن الواقعي إلى الحلمي أو المشتهى، بحثاً عن جدلية الشّكل الفنّي وأدواته المختلفة من دون تجاوز المضمون مع ما يشي به المتغيّر في ثقافة النّصوص الرّوائية واستجابتها للمعاصرة، وكيف يعاد إنتاج مفهوم الهوية في الذّهن الإبداعي والشّواغل النّصية، بعيداً عن متعاليات الفضاء الذي سيتخفّف من رؤيته محايداً وذا وظيفة فنية فقط، بل سيجهر بفتنة متخيلة، وعلى الرّغم من أن ثمّة تجارب بعينها ظلّت تراوح في شرطها الواقعي وتأبيدها للمكان وجهرها بوجهات نظر كتابها وشخوصهم كما استدخال القارئ بوصفه جزءاً من العمل الأدبي، فمن المكان الواقعي إلى المكان المتخيّل عبرت الرّواية السّورية الجديدة إلى عقدها الجديد لتعيد جدلية المكان ـ الذّاكرة بوصفه المرجع الذي تتعايش معه الشّخصيات وتتماهى به، انطلاقاً من أنّ موقع الرّاوي داخل نسيج السّرد وتغير وظائف اللغة السّردية من الإشهار إلى الإيحاء وفي ضوء سعي الكتّاب إلى تشكيل الفضاء ومنحه أبعاداً دلالية وثقافية بآن”.
الحديث عن الهوية يقودنا إلى السّؤال عن وعي الرّوائي وقدراته، يبيّن هلال: “لأنّ الفضاء الرّوائي، الآن، أصبح أكثر شمولاً من المكان، فهو يشي بالتّعدد، وسيلحظ المتلقي للرّوايات السّورية الجديدة ـ بعضها على الأقل ـ الرّهان على شعرية هذا الفضاء، مع تفاوت وعي الرّوائيين أو انكشاف وعيهم ليصوغوا تصوّراتهم وأفكارهم مع ما شهده المكان من انزياحات وتغيّرات استلزمت قدرات هائلة، أي القدرة على التّشكيل وتغيّر مفهوم الفضاء بوصفه مرجعيةً فنيةً وفكريةً، وإنّ أي تحقيب للرّواية السّورية ـ الآن ـ بأجيالها الجديدة سيبقى ناقصاً في ضوء استحقاق ما يجترحه الكتّاب الرّوائيون من رؤى جديدة تفتح في أفق هذا الفضاء المتعدّد والمختلف بتخصيب ومعاصرة لا يلغي مكوّنات البناء الأخرى، بل يتعاضد معها ليتّسق إبداع الرّواية في اختلافها وتنويعها على الشّرط الإنساني والمعرفي والفنّي”.
والسّؤال هنا: ما هو مستقبل “الرّواية الجديدة” إن صحّ التّعبير؟ يجيب نذير جعفر: “إنّ “الرّواية الجديدة” التي لم تقطع حبل السّرّة نهائياً بعد مع هموم الإنسان وأحلامه وانكساراته وواقعه، وما زالت تعيش مرحلة مخاض قد تكلّل بالولادة المعافاة إن أبقت على هذا الحبل بشكلٍ من الأشكال، أو بالموت والانكفاء إن قطعته شأنها شأن كثير من الموجات والتّقليعات والمدارس التي انصرفت عن الإنسان ومشكلاته وأسئلته وصراعه بين شروط وجوده وحلمه، وانشغلت بما يزيد غربته وتعاسته، وعلى ذلك يتوقّف الرّهان في المستقبل”.