المتلقي ضمير السرد الحيوي.. ومراش أول روائي عربي
غالية خوجة
منذ غائر الأزمان، والإنسان يبحث عن وسائل يحكي بها عن نفسه ومجتمعه، وأدرك أن صوته يوثق حكاياته الشفاهية، واكتشف الرموز والرسوم والأبجدية، واعتمد على جدران الكهوف والمغارات وألواح الطين وجذوع الأشجار والبردى والورق ليوثق ما يريد أن يكتبه، وتحوّلت هذه الأدوات إلى الشاشة الافتراضية في عصرنا.
ذائقة القارئ كاتبة أيضاً
ولأن كلّ ثيمة موضوعية قابلة لأن تُحكى، أو تُروى، فإننا نجد الغالبية أصبحت حكواتية معاصرة لا علاقة لها بالحكواتي الفلكلوري الذي كان يحكي بمسرحة استعراضية عيون القصص والسير الشعبية والروايات، بل غالبيتها لا يميّز بين الحكي والحكاية والثرثرة والسرد والقصة والرواية وتنويعاتها تبعاً لثيمتها الموضوعية مثل الاجتماعية والنفسية والعاطفية والوطنية والفلسفية والتاريخية والرومانسية والتوثيقية والسيَرية، وثيمتها الفنية التي قد تكون سردية الشخصية كبطل، أو حدث، أو زمان، أو مكان، أو لغة، وتحولاتها الجمالية بين العوامل والعناصر والأدوات، فتتناسل حكاية من حكاية، أو تميل إلى مسرحة الفضاء السردي، أو الشعري، وتنجز أبعادها مع آفاق التوقع الواقعية، المتوقعة، الاحتمالية، وتتداخل بنيتها قطعاً ووصلاً، وترتكز على الرمزية والسريالية والتشاكل المشهدي السردي، إضافة لأنوات الضمير وزوايا تبئيرها، وما إلى هنالك من فنيات سردية مشتبكة العلائق بين النص المقروء وفضائه اللا مقروء كنص ناتج عن التعالق الدلالي للبنية الدالّة والمدلولية.
لكل إنسان حكاية، وللحكاية عناصر وعوامل وضمائر وأحداث وشخوص وزمكانية وحبكة وبداية وخاتمة قد تكون مغلقة، مفتوحة، متعدّدة النهايات، وبالتالي، ليس كل من يكتب حكاية هو سارد، لأن بنية الحكي تختلف عن بنية السرد، وهذا الاختلاف يكمن في كيفية القول والكتابة وتوظيف الجماليات بفنية متناسبة مع المنظومة اللغوية والإشارية والرمزية والمخيلتية، ومتناغمة مع فضاءي النص المكتوب واللا مكتوب، ما يجعل المتلقي شريكاً حيوياً في عملية السرد وأسئلته وإشكالاته ومحاوره واحتمالاته المتنوعة بين زمان لا يسترسل بأفقيته، بل ينزاح إلى أبعاده العمودية، وتقاطعاته الحلزونية، وبين مكان لا يعتمد الوصف التصويري والتعبيري محوراً ثابتاً، بل يحركه جاعلاً من اللغة مكانية، ربما، ومن الحدث ذاته، ومن الضمائر أيضاً، فتتداخل المكونات الفنية بتقاطعات مع ضمائرها المختلفة وزوايا تبئيرها “الرؤية من خلف، الرؤية مع، الرؤية من خارج”، لتكون ذاتها ضمير القارئ ككاتب أيضاً للسرد، وهنا، ندخل فيما سمّيته “درامية البياض” في كتابي “هكذا تكلم الصلصال- سردية السرد”، وعلائق هذه الدرامية البيضاء كوظيفة سابعة مضافة لوظائف “رومان ياكبسون”: “الإحالية، الانفعالية، الإخبارية، الشارحة، الاتصالية، الشعرية”.
غابة الحق أول رواية عربية
وتبعاً لذلك، سيرى المتلقي كيف كانت إرهاصات الرواية الحلبية التي بدأت مع الأديب الطبيب فرانسيس فتح الله مراش 1865 وروايته “غابة الحق” التي شابك في بنيته الحكائية هواجسه الشعرية والفلسفية وثقافته الشرقية والغربية ليبني مدينته حلب المبتغاة كمدينة تشعّ بالعلم والثقافة والأخلاق والمحبة والعدالة والأمان والسلام، خصوصاً وأن أول مطبعة بالأحرف العربية ولدت في حلب عام 1702.
وأتبعها مراش بأعمال أخرى منها “در الصدف في غرائب الصدف” عام 1872، وتلتها كتابات حكائية سردية مع شكيب الجابري الذي أصدر روايات عدة أولها “نهم” عام 1937، ومع عبد الرحمن آل شلبي وكانت أولى رواياته “من المجهولة إلى مايا” عام 1947. ثم كان أن جذبت الرواية أدباء آخرين، منهم صباح محيي الدين “خمر شباب” 1958، أدمون بصال “شخصيات تمر وإنسان يعيش”، ولمعت جماليات النص الروائي والقصصي أكثر مع الأديب فاضل السباعي الذي انطلق من رواية “الظمأ والينبوع” 1959، والكاتبة جورجيت حنوش وروايتها “ذهب بعيداً”1961، وكتب في هذا الفضاء كلّ من الأدباء محمد راشد، وجورج سالم، وأديب نحوي.
وعلى الرغم من البنية التقليدية والكلاسيكية لهذه الأعمال، لكن القارئ سيشعر بأنها ساهمت في تشكيل المشهد السردي الحلبي والسوري والعربي، وامتازت بكونها أفضل من كثير مما يُنتج حالياً من خواطر قصصية يسميها كاتبها أو كاتبتها قصة، أو قصة قصيرة جداً، أو نصاً لا ينتمي إلى السرد ويسمّى رواية، بل يكون أقرب إلى النصوص الإلكترونية السريعة على الصفحات الزرقاء والتغريدات الأخرى.
وتوالت الفضاءات التجريبية في المجال السردي، وبدأت تضيف لنصها المثقف وشبكتها العلائقية رشاقة فنية بين المسرحة والشعرية والرمزية والسوريالية، وأنجبت العديد من الروايات الملفتة في المشهد الحلبي والسوري، ومنهم وليد إخلاصي، وحيدر حيدر، وحنا مينه.
وما تزال تتوالى أسئلة المتلقي عن مستقبل السرد وجمالياته، وما الذي يضيفه ضمن هذا الكمّ الهائل من الإصدارات الورقية والافتراضية، خصوصاً بعد الحرب الظلامية على وطننا سورية؟.