دراساتصحيفة البعث

بوتين يستعيد مجد روسيا..

ريا خوري

ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطاب النصر بعد إعلان فوزه الساحق في الانتخابات الرئاسية، بنبرةٍ حادّة فيها كل القوة والعنفوان والتحدّي ذكَّرت العالم بأنَّ هناك زعيماً تاريخياً استطاع بجدارة أن يتحدّى الغرب الأمريكي ـ الأوروبي، وأن يعيد لروسيا الاتحادية العظيمة أمجادها الغابرة، حيث قال في خطابه: “أمامنا العديد من المهام التي يجب علينا القيام بها. ولكن عندما نتوحَّد، بغضّ النظر عمن يريد قمعنا أو ترهيبنا، لم ينجح أحد في التاريخ السياسي على الإطلاق في ذلك، ولم ينجحوا الآن، ولن ينجحوا أبداً في المستقبل”.

فوز بوتين في الانتخابات الرئاسية يمكَّنه من حكم روسيا ست سنوات قادمة، وهذا الأمر لم يكن غريباً، لكنه بالنسبة إلى الأمريكي ـ الأوروبي ودول حلف شمال الأطلسي (ناتو) أمرٌ يقضُّ مضاجعهم لأنهم يعلمون علم اليقين أنَّ الكرملين القوي لن يتراجع عن نهجه واستراتيجيته وسياسته تجاه الغرب الذي أعلن غير مرَّة عن مطامعه في إذلال روسيا الاتحادية وجعلها دولة خاضعة طيِّعة لسياساتهم،  بل إن عليهم أن ينتبهوا إلى أنَّ روسيا الاتحادية ستكون أكثر قوةً وجرأة سواء في أوقات السلم أم الحرب لسنوات عديدة قادمة. وهذه الجرأة تمثَّلت في توجيه الجيش الروسي القوي إلى أوكرانيا، وإحباط جميع الخطط والمشاريع الغربية التي كانت تسعى جاهدةً لتحويل أوكرانيا قاعدة متقدمة لحلف شمال الأطلسي (ناتو). ولعلّ المعاناة الشديدة التي يعانيها الغرب ما زالت متواصلة لسنوات قادمة.

إنَّ عملية استنهاض روسيا من جديد وإعادة مجدها التليد هي عملية مصيرية ومفصلية في التاريخ السياسي الروسي، وما قام به الرئيس الروسي أجبر الغرب الأوروبي ـ الأمريكي على أن يعترف به قبل غيره من دول العالم، فقد قدَّم عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود في كتابه المهام (هزيمة الغرب) قراراتٍ علمية وموضوعية على إعادة الروح للمجتمع الروسي في عهد بوتين، إذ يقول عن قوة وصلابة الجبهة الداخلية الروسية بين عامي 2000 و2017، وهي مرحلة مفصلية مهمة ومرحلة مركزية لتحقيق الأمن والأمان والاستقرار في عهد بوتين: إنّ معدل الوفيات الناجمة عن إدمان الكحول في روسيا الاتحادية انخفض بنسبةٍ كبيرة من 25.6 لكل 100 ألف نسمة إلى 8.4 لكل 100 ألف نسمة، وهذا أمر مهم في تطوّر بنية المجتمع، ليس هذا فحسب فقد انخفض معدَّل الانتحار إلى 13.8%، أما معدّل الوفيات السنوية بين الأطفال الرضّع، فقد انخفض من 19% لكل 1000 (طفل) في عام 2000 إلى 4.4% في عام 2020، وهو أقل من المعدل في الولايات المتحدة الأمريكية البالغ 5.4%.

أما البيانات الاقتصادية الصادرة في روسيا الاتحادية فتثبت الارتفاع السريع في مستوى المعيشة اليومية بين عامي 2000 و2010م، وتلاه بين عامي 2010 و2020م تباطؤ واضح ناجم عن الصعوبات الجديدة الناجمة بشكل خاص عن العقوبات الجائرة التي أعقبت ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا الاتحادية.

الجدير بالذكر أنَّ هناك العديد من المعلومات الصادرة قد راهنت عليها القيادة الروسية وكانت إحدى الركائز والقواعد في الحرب الساخنة في أوكرانيا، فقد نجحت روسيا الاتحادية، في غضون سنوات قليلة، ليس فقط في تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي، بل أصبحت واحدة من أكبر مصدّري المنتجات الزراعية في العالم. وصلت صادرات الأغذية الزراعية الروسية إلى مستوى قياسي بلغ نحو ثلاثين مليار دولار أمريكي، وهو رقم أعلى من عائدات صادرات الغاز الطبيعي الروسي في العام نفسه أي 2020 ستة وعشرون مليار دولار. وهذه العملية الديناميكية، التي كانت مدفوعة في بداية الأمر بالبذور الزيتية والحبوب الزراعية، أصبحت الآن تعتمد أيضاً على صادرات اللحوم ومشتقاتها، كما سمح أداء القطاع الزراعي الكبير لروسيا الاتحادية بأن تصبح مصدراً صافياً للمنتجات الزراعية والزيوت النباتية في عام 2020م.

وكلّ هذه المعطيات والمؤشرات تثبت أن روسيا الاتحادية أعادت من جديد بناء مجدها وقوتها الاقتصادية، وتواصل ذلك على أسس متينة بعيدة عن السياسات المافيوزية الغربية التي تقوم أعمالها على أساس ابتزاز الأموال، وتصفية خصوم سياسيين نظير مقابل، وتجارة المخدرات وتجارة السلاح، ومن ذلك أنه حظر أي نشاط للمثليين في روسيا الاتحادية وأعلى من قيمة العائلة والزواج وأرسى القواعد والنواميس الأخلاقية في المجتمع، وأعاد جائزة الأم البطلة للأم التي تنجب عشرة أطفال وأكثر، لأنّ من معايير القوة الصلبة في الدول والحكومات والإمبراطوريات القوة البشرية وما تنتجه اقتصادياً. أما عسكرياً فإن روسيا الاتحادية استطاعت أن تتحدّى الغرب بأكمله وكل دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) وكل أسلحته وهزمتهم وخيّبت آمالهم في أوكرانيا.

لم يتوقف التطوّر والتقدم في روسيا الاتحادية على القضايا الاجتماعية والاقتصادية، بل اعتمدت روسيا الاتحادية على صداقات وتحالفات قوية ولا تزال تتمدّد في معظم دول العالم من القارة الآسيوية إلى القارة الإفريقية، فقد تمكّنت من فرض وجودها وتتحدّى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. ويكفي بوتين أنه أعاد بناء علاقات قوية مع جمهورية الصين الشعبية على أسس قوية ومتينة وشراكات قوية صارت اليوم سلاحاً في إعادة التوازن في ملعب السياسة الدولية. فقد قال لين جيان المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية خلال مؤتمر صحفي، ردّاً على سؤال بشأن عملية الانتخابات الرئاسية الروسية: إنَّ (جمهورية الصين الشعبية تتقدم بتهانيها على هذا الأمر)، وفي حقيقة الأمر، الصين تؤمن إيماناً كبيراً بأنَّه في ظل التوجيه الاستراتيجي للرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ستواصل العلاقات بين روسيا والصين المضي قدماً، وأنَّ العلاقات الدبلوماسية الصينية الروسية ستكون أكثر حيوية في ظل ولاية جديدة للرئيس بوتين. كل هذا يؤكد أنّ روسيا الاتحادية قد نجحت في إعادة الروح للأمة الروسية التي لها تاريخ عريق، وذلك في ظل الحروب المعلنة عن الحضارة السلافية العريقة.