دراساتصحيفة البعث

في شعار البعث…

نبيل فوزات نوفل

نحن عرب تعبر عن حقيقة عربية خالدة في حياة الأمة العربية، وتأخذ دورها ووظيفتها بوصفها قوى ربط مصيري بين العرب ورسالتها الخالدة وضمانة مسيرتهم نحو النهضة، والعروبة برهان العرب على وجودهم واستمرارهم أمة عربية لها تطلعاتها المشروعة.. نحن عرب هتاف اللغة العربية للأجيال العربية أن العروبة شرعيتهم التاريخية، واستمرارهم في معركة المصير العربي، ولقد كان شعار حزب البعث العربي الاشتراكي ميزة فريدة له، ميزته عن بقية الأحزب في الوطن العربي، وعبّر عن رؤية استراتيجية مبكرة متقدمة لفهم الواقع العربي، وعلى الرغم من ذلك ظل مفهوم الرسالة الخالدة في حزبنا أمداً طويلاً مجالاً لتساؤلات كثيرة لا في صفوف الجماهير فحسب، إنما في صفوف القواعد الحزبية نفسها، وكان أقل الشعارات التي قدم عنها تراثنا الحزبي الإيضاحات اللازمة على الرغم من أنه الشعار الذي يردده البعثيون في كل اجتماع، وتصدح به حناجرهم ملء الكون، ويُردد في كل مكان.
ومنذ التأسيس، أوضح البعث مفهوم الرسالة الخالدة عندما نص المبدأ الثالث من المبادئ الأساسية لدستور الحزب الذي أقره المؤتمر التأسيسي، في السابع من نيسان 1947، على أن “للأمة العربية رسالة خالدة، تظهر بأشكال متجددة، متكاملة في مراحل التاريخ، وترمي إلى تجديد القيم الإنسانية، وحفز التقدم البشري، وتنمية الانسجام بين الأمم”. وحدد دستور البعث العربي الاشتراكي مضمون الرسالة الخالدة للأمة العربية في نقطتينّ: الأولى، الاستعمار وكل ما يمت إليه عمل إجرامي يكافحه العرب بجميع الوسائل الممكنة، وهم يسعون ضمن إمكانياتهم المادية والمعنوية إلى مساعدة جميع الشعوب المناضلة في سبيل حريتها، والثانية إن الإنسانية مجموع متضامن في مصلحته مشترك في قيمته وحضارته، فالعرب يتغذون من الحضارة العالمية ويغذونها، ويمدون يد الإخاء إلى الأمم الأخرى، ويتعاونون معها على إيجاد نظم عادلة تضمن لجميع الشعوب الرفاهية والسلام والسمو في الخلق والروح.
إن مفهوم الرسالة العربية الخالدة على هذا النحو ذو محتوى إنساني تقدمي، ودعوة الجماهير العربية للتحرر وتصفية التخلف، وإقامة حياة عربية حديثة على مستوى العصر وهو إلى جانب هذا نضال ضد الاستعمار في كل مكان، ومساندة لحركة التحرر العالمي، وإسهام في تحقيق التقدم والرفاهية لجميع شعوب العالم، إنه بالتالي نضال من أجل بناء عالم جديد ينتفي منه الاضطهاد والاستغلال كما تنتفي منه الحروب ويسود السلام.
إن الرسالة الخالدة للأمة العربية تكمن في في عراقتها وتطويرها الخلاق المبدع لشتى مجالات الفكر البشري من فلسفة، وعلوم وآداب، وهذه العلوم التي أعطاها الوعي العربي كانت رسالة إنسانية في العلم والفلسفة، وإنّ خلود الرسالة يكمن في الدور الحضاري التطبيقي للأمة العربية مع أمم الأرض، ولقد تجلت الصيغة التطبيقية لمفهوم الرسالة الخالدة كما طرحها حزب البعث العربي الاشتراكي من خلال ممارساته النضالية من خلال الدعوة إلى الحياد الإيجابي، وهذا أثبت الهوية التقدمية لفكر الحزب، حيث استطاع من خلال الممارسة أن يسقط عن فكرة الرسالة طابعها الغامض، ويحولها إلى واقع حي وممارسة نضالية يومية، ومن خلال التفاعل مع الحضارات الأخرى تفاعلاً خصباً بسبب ما تمتلكه من إرث حضاري قومي، تعطي وتُقدم الكثير من نتاج العقل البشري، وأخضعت المعطيات العملية لواقعها وحياتها وبلورتها وفق مقتضيات الأحوال، وإن ما أفرزه الوعي العربي من قيم وفكر وما قامت به هذه الأمة على مسرح الحياة من أعمال إنسانية أدت إلى تطويرالكثير من قوانين الحياة والعلاقات الاجتماعية جعلها أمة ذات رسالة خالدة، ومن خلال النضال اليومي لشعبنا ضد الإمبريالية والصهيونية ومرتكزاتها وأدواتها بأشكالهم المختلفة، ونضال الأمة من أجل التطور وخلق الحياة الإنسانية للشعب عن طريق الإيمان بالعلم ومخترعاته ومكتشفاته، والإيمان بقدرة الشعب المبدع. ومن هنا ركز الحزب على الحرية والدفع بالإنسان للتحرر من الديكتاتورية.
وتالياً فإن تجديد القيم الإنسانية وصقلها والارتقاء بها لدرجة الكمال رسالة دائمة لأمتنا، ولقد ظهرت وتظهر في انفتاحها على شعوب المعمورة، انطلاقاً من أن التقدم البشري الواعي، لا يقوم على فكر أمة واحدة، وإنما يقوم من خلال التفاعل والمزج بين أفكار الأمم المتقدمة، تتلاقح الأفكاروالنظريات فيما بينها وتأخذ مساراً تاريخياً، حيث يتم نضجها وإخراجها للإنسانية صائبة، والمجتمع الإنساني كل متحد غير متجانس يتفاعل فيما بينه، وبالتالي إن حفز التقدم البشري لا يعني خلقه من اللاشيء، وإنما يعني غسله وتطهيره وإغناءه بمضامين جديدة منحها عقل الأمة الواعي وخلدتها روح الحياة المتجددة، من هنا نعي أن خلود الرسالة خلود متجدد بشكل إبداعي متطور، يدرك أن حركة المجتمع حركة أمامية صاعدة لا تعرف ركوناً ولا وقوفاً، تتكرر هذه الحركة عبر الزمان والمكان، حاملةً قيم الماضي المتطورة، دائمة بها إلى الأمام، رافدة إياها بمعطيات العصر والأمة.
والعرب بوصفهم أمة تؤمن بخلود رسالتها فإن ذلك يعني أنّ هذه الأمة تؤمن باستمرار نضالها من أجل الحياة والتطور، وتؤمن بأن شعوب العالم كل واحد يهدف لحياة الخير، ولذا فمصلحة الشعوب واحدة مشتركة فيما بينها، لإقامة حضارة الإنسان، وأن نضال كل أمة في درب العالم والتطور والتحرر، هو نضال يعني جميع شعوب العالم ويقويها ويطورها، وأن العدو لشعب ما، وعدو للإنسانية يعيق حركة وتطور هذا الشعب وبالتالي فإنه يؤخر من حركة تقدم البشرية، وأن وحدة النضال للشعوب هدف إنساني للشعوب كلها، وعلى الأمم أن تناضل من أجل تقوية وترسيخ هذه الوحدة النضالية ليعم التحرر أرض البشرية كلها، وأن حضارة البشرية والمدينة هي ملك لجميع الشعوب، لأنها نتاج نضال هذه الأمم معاً وإن اختلفت إمكانية أمة من أخرى، وهذا يعني أيضاً أنّ العرب بوصفهم أمة ذات رسالة، يتعاونون مع بقية الأمم، ويقدمون لها كل ما يمتلكون من عون ومساعدة، ويسعى العرب مع غيرهم من أمم الأرض بشتى الطرائق إلى إقامة العلائق الطيبة، وخلق الأنظمة التي تضمن العدل والرفاهية والسلام لكل الشعوب، ومن هنا فإن الرسالة الخالدة لأمتنا تظهر بأشكال متجددة ومتعددة على المستويين المادي والروحي.
وتالياً فإن رسالة الأمة في تحرير الإنسان العربي مادياً ومعنوياً مهمة تاريخية لحزبنا يناضل من أجلها لخلق الإنسان العربي المتحرر القادر على خلق عالمه ومجتمعه الجديد، وبالتالي إن تحقيق رسالة الأمة العربية، لا يتم بتشتت الأمة، وإنما بوحدتها وخلود رسالتها وهما أمران متلازمان لا ينفكان ولا تتحقق رسالة أمتنا إلا بوحدتها، وهذا دليل على الروح العلمية التي يتصف بها فكر الحزب في موقفه من الماضي الذي يمثله التراث الثقافي للشعب العربي، وبالتالي إن العلاقة بين الأمة العربية الواحدة والرسالة الخالدة كالعلاقة بين الموقد واللهب، فاللهب روح الموقد ونتاج احتراقه،ورسالتنا الإنسانية التقدمية هي هذا اللهب المشع والمضيء الذي يببثق عن وحدة أمتنا.
إن شعار حزبنا (أمةٌ عربيةٌ واحدة ذاتُ رسالةٍ خالدة) يصبح معادلة مغلوطة إن سقط منها طـرف، ﻷن اﻟطـرف الثاني نتيجة اﻷوﻝ، والطرف اﻷوﻝ منبع للثاني، واﻹيمان بطرف من دون اﻵخر  خطأ أيديولوجي، وفهم ساذج ﻻيقود إﻟــﻰ الموضوعية واﻟﻌﻠﻤﻴﺔ، من دون تلازم الطرفين وترابطهما ﻻتستطيع أمتنا أن تحقق انتصاراتها اﻹنسانية واﻟﻘومية.
إن اﻟواﻗﻌﻴﺔ اﻟﻤﺒدﺌﻴـﺔ تتلازم مع اﻟﺘﻐﻴﻴـر واﻟﺘﺒـدﻝ وتفرضه وﻓـق ﻗـوانين اﻟﺘطـور، ﻟـذا ﻓإن الأشكال اﻟﻌﻠﻤﻴـﺔ ﻟﻤﻔﻬـوم اﻟرسالة اﻟﺨﺎﻟدة تأخذ مساراً متجدداً ومرحلياً وﻓـق ظروﻓﻨـﺎ ومراحلنا اﻟﺘﺎريخية من دون أن تفقد ﻋﻨﺎﺼـرﻫﺎ الأساسية المكونة وجوهرها القومي الإنساني باعتباره منبعاً ﻓﻛرياً وحضارياً يؤمن بالتطور درباً ﻟﻠﺤﻴﺎة واﻟﺘﻘدم، وبالعكس فالإيمان بطرفي المعادلة معاً هو العلمية.
والرسالة الخالدة من خلال فكرة القومية العربية في أيديولوجية حزب البعث العربي الإشتراكي، تنظر إلى الماضي بأنه درس، وتجربة للحاضر والمستقبل، وتؤمن بضرورة العودة إليه لاستنباط إيجابياته وتطويرها والاستفادة منها في حياتنا اليومية ومعاركنا النضالية، وإن فكرة القومية العربية لم تقترن بفكرة الرسالة الخالدة فحسب، إنما قادت أيضاً إلى ضرورة تكوين نظرة إلى التاريخ العربي وتحديد علاقته بالحاضر والمستقبل، حيث أكد الحزب الماضي ورفض قطع الصلة به أو إهماله، إنه لا يرى فيه الكمال ويعدّه مرحلة لا يمكن أن تسترجع، لكنها يمكن أن تؤثر، وأن لها في الحاضر صلات ووشائج حية، وإن كان تجاوزها واجباً، فليس بترها واستئصالها ممكناً ولا مفيداً.
وبهذه الرؤية، تستطيع أمتنا العربية أن تضع إنسانيتها العربية بين الحقائق الإنسانية الخالدة من أجل أن تتصافق معها حاملة رسالتها الجديدة التي تسفر بدورها عن إنسانية العروبة، لأن هذه الرسالة إبلاغ الأمة العربية للإنسانية، ولقد عبر الرفيق القائد المؤسس حافظ الأسد عن خلود الرسالة بشكل موجز حين قال: “لسنا معتدين، ولم نكن قط معتدين.. نعشق الحرية ونريدها لنا ولغيرنا، وندافع اليوم كي ينعم شعبنا بحريته”، لقد لازم بين نضالنا للحرية وبين نضال الشعوب الأخرى، وأكد أن الأمة العربية لم تكن في تاريخها أمة معتدية، وإنما كانت تحمل الحب والخير ليعيش السلام، ثم أن حربنا مع العدو هي دفاع عن حريتنا، ووجودنا الإنساني، وإسهام في معركة التحرير البشري من الاستغلال لتدعم وحدة الشعوب المناضلة من أجل حريتها واستقلالها.