الحنين إلى العيد
غالية خوجة
الحياة تتأرجح مع الأطفال وهم يلهون بأراجيح الحي الخشبية البسيطة، وتردد معهم أناشيدهم الموروثة، بينما المدى المتحرك صعوداً وهبوطاً مع أصواتهم وأجسادهم يبتسم من هذه البراءة الحالمة بهذه اللحظة، لأن كل طفل من جيلنا كان يحلم بالحصول على “العيديات” من الأهل والأقارب والمعارف والأصدقاء والجيران، ويخرج ليتأرجح بهذه الألعاب البسيطة، أو يذهب إلى أماكن تحتفل بالعيد، مثل الحدائق العامة، والبقالات التي نشتري منها ما نشاء من الحلوى غير تلك التي في بيوتنا، ونزدحم في دكان “صندوق الفرجة” الذي يمرر شريطاً يحكي حكاية عن علي بابا، أو علاء الدين، أو سندريلا، أو جحا، أو عنترة العبسي، ولا نعود إلاّ ومعنا البالونات والزينة متمنين ألاّ ينتهي العيد.
وحدث أن تنقّلتْ الشاشة من صندوق العجائب، وشاشة التلفاز البلاستيكي اللعبة بشريطه الذي يعرض صوراً من الحج، ونفرح به كهدية من العائدين من الأراضي المقدسة، لتصبح الشاشة محوراً أساساً من الحياة المعاصرة المتحولة من واقعيتها إلى افتراضيتها اللا محدودة، لكنها جميعاً وبكل أشكالها تردد مع العيد أبيات المتنبي: “عيد، بأية حال عدت يا عيد، بما مضى أم بأمر فيك تجديد، أمّا الأحبّة فالبيداء دونهم، فليت دونك بِيداً دونها بِيد”.
وهكذا، كانت للعيد بهجته بين الأهل والجيران والناس، وكان الوالدان يفرحان، ببراءتهما التي لا تقل عن براءتنا، فرحة تتسع لفرحتنا رغم ضجيجنا المرهق لهما، وكانت الصلات لا تُقطع بين الأقارب، مثل المودة المتفتّحة بين الناس، في البيوت، والشوارع، وكان لا بد من صوت أم كلثوم وأغنيتها “الليلة عيد”، وكأن حلب بأحيائها وأسواقها القديمة والشعبية والحديثة مسجِّلة واحدة بأشرطة دائرية تدور بهذه الأغنية منذ يوم الوقفة وتستمر مع أيام العيد التي نحنّ إليها ونحن نلبس الجديد ونتمتّع بوقت حرّ للعب والتجوال والزيارات.
منذ تلك الأيام، ونحن نفتقد تلك السعادة الجوهرية لأسباب كثيرة، منها ما عشناه من هموم ومعاناة وظروف وأزمات وحروب وزلزال وكورونا وحصار انعكست علينا وعلى أطفالنا والجيل اللاحق، فصار العيد أن يمضي اليوم بسلام من الله حالمين بمستقبل قريب يجمعنا مع أولادنا وما تبقّى من أهلنا في شتات الأرض، وأن ينتصر أصحاب الحق في كل مكان من الأرض، خصوصاً، في فلسطين التي لم تعرف عيداً منذ عام 1948.
وماذا عن الجيل الجديد؟
أرى أنه يحنّ إلى الأجهزة الإلكترونية وشاشاتها أكثر من حنينه إلى العيد، فتلك الأشياء البسيطة التي كانت تُفرحنا أصبحت من الذاكرة الموروثة، ونسبة لا بأس بها من هذا الجيل لا تكترث كثيراً بالثياب الجديدة، لأنها اعتادت على لباسها طوال أيام العام، ولا تلتفت إلى الأراجيح الخشبية والحديدية التي عاد بعضها إلى بعض الأحياء الشعبية بسبب الظروف الحياتية، ولا تهتم كثيراً بزيارة الأهالي والأقارب، لأن ميولها الأساسية أن تلتقي بأصدقائها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أو في الأماكن العامة المفتوحة، أو في المقاهي والمطاعم.
لقد تغيّرت طريقة التعبير عن الاحتفال بالعيد كما تغيّرت الحياة، ولكل جيل وسائله وحياته، لكن، الأجمل لو استمرت الحياة مع جمالياتها البريئة، ومنها إعطاء الأولوية بالصلة لذوي القربى، والعلاقات الإنسانية المترابطة المبنية على التوادد، غير ناسين موتانا رحمهم الله من الصلة بزيارة قبورهم والدعوات لهم، وهذا ما تفعله الغالبية في حلب، وغير ناسين، بكل تأكيد، أهالي الشهداء، وجرحى الوطن، والمحاصرين في فلسطين، وهؤلاء الناس الذين لا يستطيعون تأمين أبسط احتياجات العيد.