“ننذكر وما ننعاد”.. بين الهزل والسخرية وعبث الشارع
حلب- غالية خوجة
تناولت مسرحية “ننذكر وما ننعاد” الكوميدية التي قدّمها “تجمع رايت الفني” العديد من المواضيع الاجتماعية والإنسانية والوطنية بطريقة فكاهية شعبية بلهجة حلبية، وانتمت إلى مسرح العبث الواقعي المؤلف من السخرية والنقد والهزل والتهريج والاستعراض، ومن جهة أخرى، حاولت الاقتراب من “الدراما السوداء” بأسلوب كوميدي مضحك، حاكى في كثير من شخوصه وتفاصيله ما يألفه المجتمع من أعمال شعبية تنتمي إلى أجواء “غوار الطوشة” و”أبو عنتر” وغيرها من عروض برزت قبل الحرب الكونية على سورية.
وهذا أول ما يلاحظه المشاهد وهو جالس على كرسي في قاعة مسرح الجمعية الأرمنية بالعزيزية، ليتساءل: ما الذي أراده كلّ من المؤلف مصطفى آغا، والمخرج الدكتور حازم حداد من مشاهد المسرحية؟ وماذا لو تمّ اختزال الكثير من الاستطالات على صعيد التكرار والزمن؟ وماذا لو حذفت تلك الألفاظ والحركات والإيماءات غير المناسبة؟
تبدأ المسرحية بتعريف فني بالشخوص الممثلة التي أجادت أدوارها، فكلّ منهم ينادي على الآخر مع نبذة يشتهر بها مثل السكير، والأعمى، والمساعد أول المتقاعد، وكاتب التقارير وقلمه الذي ورثه عن أبيه، والضرتان، ورضا، ومازن مختار الحيّ، ليبدأ المشهد الأول بعرس حلبي وما يتضمنه من عادات وتقاليد و”هناهين” وزغاريد وأغانٍ أداها المطرب كامل نور وتفاعل معها الجمهور، وكان العريس مختار الحارة، ومثّل دوره الفنان معتز سيجري، غير المصدق بأنه يقترن مع زوجة ثانية شابّة بعمر بناته ومتناقضة مع صفات زوجته الأولى، وهما، وكما توضح المشاهد اللاحقة، ضرتان تتبادلان من المكائد والألفاظ الشعبية ما فاض عن المطلوب في العمل، بالإضافة إلى الألفاظ السوقية التي فاضت في العمل بين الشخوص، وبعض الإيحاءات غير المناسبة وغير الضرورية، ولاسيما أن الحضور عائلي ويتوقع أنه في المسرح لا في الشارع!.
ويبدأ المشهد الثاني بصوت “الله ينصرهم على أعدائهم” مع ضجيج يوحي بحدوث حدث غير طبيعي في تلك الليلة، وهنا تبرز القضية الفلسطينية مجسّدة بغزة، وتصرخ الزوجة الأولى معترضة على الضجة، ثمّ الزوجة الثانية، ويمثل دورها الفنان سيف نور، وتبدأ الملاسنات الشعبية بينهما ويظهر “أبو بكري السكرجي” ويخلط الحابل بالنابل، كما تختلط الكثير من الأمور كلامياً وإشارياً في هذا العمل، ومنها “الله يخلي لك أمك” فلا يرد، إلى أن يقول له “الله يخلي لك جارتك”!.
أصوات القذائف تجعل أهل الحارة في حالة فوضى وهرب، وأحدهم يقول: “العالم تركض استباقية” تحسّباً من ضربة مفاجئة ما، وتشتبك خيوط هذا المشهد مع “فضفضة” أهل الحارة عن يوميات الحياة، ومنها أن الأعمى الدرويش يتسول ويطلب المزيد من المال شارحاً أن كيلو اللحم بكذا، والسكر بكذا، فيجيبه أحدهم: “وماذا أفعل أنا موظف؟”، فيجيبه: “أنت بحاجة إلى هذا المال أكثر مني ويعطيه ما حصل عليه”!.
وتعود ثرثرة أهل الحارة إلى موضوع غزة وأبطالها الذين يخرجون المحتلين “متل طش الغنم” ليصفق الجمهور كثيراً في دلالة قوية على الإصرار على عودة الأرض لأهلها، ويجتمع منطوق الممثلين على “الآن، يظهر العربي الأصيل، الشعوب العربية والجيوش العربية قلب واحد”، وفي هذه الحالة خلال “شهرين نحرر فلسطين”، ويستعد المختار ليكون البطل، لكن زوجته الأولى تستهزئ به أمام أهل الحارة، ومع ذلك يصرّ على خداع نفسه والآخرين بأنه بطل، لكنه وهميّ بعلمه وعلم الكاتب والمخرج والحضور، وهو نفسه يستهزئ بالواقع العربي والعالمي والوقت الممتد كما امتد في المسرحية التي استطالت في الكثير من المشاهد من دون لزوم.
وعبر المَشاهد، نلاحظ الجميع يستهزئ بالمختار، والجميع يستهزئ بالجميع، وكل المشاركين يلتفّون بطريقة ما على زوجتَيّ المختار، ويلقّبون الزوجة الأولى “أم حنين” بـ”الدبابة” و”الصاروخ”، هي التي غيّرت اسمها من “اعتكاف” إلى “ستيلا”، ويطلقون على الزوجة الثانية “هيفا” الدلوعة جداً بـ”الرصاصة”، وتتخلل الفقرات في المشهد الواحد، حالات انتقال بين الحياة الشخصية لأبطال العمل وإيماءاتهم والمسبّات الشخصية واللعنات، والحياة العامة والاجتماعية والاقتصادية، والحالة العربية المعاشة وما يحدث في غزة، وكيف تدور فكرة أهل الحيّ حول فتح باب التطوع للذهاب إلى غزة متسائلين أين العالم؟ أين التنسيق العربي والدولي؟.
وتتداخل الأحداث، وتشتبك هموم أهل الحيّ، وتبدو اللقطة الصادقة في كيفية انسحاب الناس فرداً فرداً بحجة المعيل والمعوق والوحيد والأعمى، وتبادل الاتهامات لمن لا يذهب بأنه ليس وطنياً، بينما السكّير يقول: “لم أخبر أهلي بأني سأتأخر”! أما المختار فيبالغ بدلالاته ومواقفه.
ويبيّن أبطال العمل أن التطوع يحتاج إلى تدريب وسلاح، فينطلقون إلى فقرة ألعاب القوى والتمارين الرياضية المصحوبة بموسيقا راقصة كما اقترحت الزوجة الثانية، وهنا، يتفاعل الجمهور الذي أخبرني بعضهم حين سألتهم عن رأيهم بالعرض بأنه: “حلو! لذيذ! تغيير شكل! كوميدي بحت حتى موضوع غزة لم يكن جدياً”!.
وهكذا اختلط الهزل بموضوع جاد، واختلطت معه السخرية والنقد اللاذع للواقع ومجرياته ومواضيعه المتعدّدة، واتضح أنه لا يوجد تخطيط لا على صعيد المسرحية ولا على صعيد الواقع، لأن رائحة هذا التخطيط أشبه بغازات ثاني أكسيد الكربون البشري التي كانت على المنصة، وأشبه بالعرّافة التي تظهر في أحد المشاهد وتشتغل على الـ”وايف اي”، ويسألها أهل حارة المسرحية: “متى نذهب إلى غزة ونرجع؟” لتجيبهم: “أنتم جماعة حرب والعين عليكم والرب يحميكم”.
وسألت “البعث” بعض الحضور عن رأيهم بالمسرحية، والرسالة التي وصلتهم، وعن ضرورة حذف بعض الاستطالات والألفاظ النابية من شتائم ومسبات وإيحاءات أخرى؟ فأجابتنا راما حسين، طالبة كلية فنون: “أراها تنتمي إلى الكوميديا السوداء، وتقدّم الموجود في المجتمع من سخرية وأحاديث وحكايات غير واقعية، يعيشون الجو، ويضحكون على أنفسهم والحضور، والرسالة التي فهمتها هي أن الشعب كله مع القضية الفلسطينية، وأن مجتمع المسرحية همّه تعدّد الزوجات، لكنه يفتقد الوسيلة والحيلة، وبالفعل لو حذفت تلك الألفاظ والتصرفات الإشارية السيئة وبعض التكرارات لكانت المسرحية أفضل، كما أن شخصيات العمل تشبّه حالها بشخصيات مسرحية معروفة سابقاً في حلب وسورية”.
بدوره، أجابني المخرج والممثل محمد مروان إدلبي: “الظروف التي نمر فيها صعبة جداً، ولا تساعدنا على إنجاز منتج فني، وكوني مشرف التقنيات في هذه المسرحية، فأرى أنها محاولة لاستقطاب الجمهور إلى المسرح، وتسليط الضوء على الواقع بطريقة ناقدة، رسالتها أن العرب والعالم لم يكونوا يداً واحدة قوية من أجل غزة وفلسطين، ونؤكد على أن هذا الواقع ضعيف”.